تزاحم المفاسد
وضــدُّه تزاحــمُ المفاسـدِ
فارْتَكِب الأدنى من المفاسد
وضد القاعدة السابقة تزاحم المفاسد بحيث لا يتمكن المرء من ترك المفسدتين معا،
وإنما يتمكن من ترك أحدهما بشرط ارتكاب الأخرى،
فحينئذ يرتكب المفسدة الأقل من أجل درء المفسدة الأعلى،
وهذه القاعدة لها أدلة في الشريعة،
من أدلتها قوله -جل وعلا-: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ .
وهنا تعارضت مفسدتان:
المفسدة الأولى: مفسدة النفس، والمفسدة الثانية: الأكل من الميتة،
فتُجُنِّبَت المفسدة الأشد، ولو كان في ذلك ارتكاب المفسدة الأقل بأكل
الميتة.
وكما سبق أن المفاسد منها ما هو
محرم، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو كبائر، ومنها ما هو صغائر، فنجتنب
الصغيرة ولو فعلنا المكروه، ونجتنب الكبيرة ولو كان في ذلك فعل الصغيرة
إذا لم يمكن ترك الجميع.
وكذلك من
المفاسد ما يتعلق بالغير ومنها ما هو قاصر على النفس، فالمفسدة القاصرة
على النفس نرتكبها إذا لم نتمكن من درء المفسدة المتعلقة بالغير إلا
بارتكاب المفسدة الأولى، مثال ذلك: إذا كان الإنسان مضطرا للأكل ولم يجد
إلا ميتة أو طعاما لمن كان في مثل حالته فحينئذ إن أكل من الطعام الآخر-هو
حلال- لكنه فيه مفسدة متعلقة بالغير، والميتة ليس فيها مفسدة متعلقة
بالغير، فنقدم المفسدة القاصرة على النفس على المفسدة المتعلقة بالغير.
ومثال ذلك -أيضا- لو قيل للإنسان اقتل غيرك وإلا قتلناك، فحينئذ هنا
مفسدتان: قتل النفس، وقتل الغير، والمفسدة المقدمة هنا المفسدة المتعلقة
بالنفس، فنرتكب تلك المفسدة، ونتحمل القتل من أجل أن ندرأ المفسدة الأعظم
المتعلقة بقتل الغير.
وهنا قاعدة متعلقة بهذه القاعدة يعبر عنها الأصوليون كثيرا، وهي قاعدة: درء
المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، قالوا: لأن اعتناء الشارع بالمنهيات
أعظم من اعتنائه بالمأمورات، واستدلوا عليه بقول النبي -صلى الله عليه
وسلم-: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء
فاجتنبوه ففي النهي قال: اجتنبوه واتركوه كلية، وفي الأمر علَّقَه
بالاستطاعة.
ويمثلون له بأمثلة عديدة
منها ما ورد في الحديث: وبالغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما كما في
السنن، فقالوا: هنا مفسدة متعلقة بالتأثير على الصيام، وهنا مصلحة متعلقة
بالاستنشاق، فدُرئت المفسدة هنا؛ لأن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة.
ومن أمثلته -أيضا- لو تولد حيوان من حيوان مأكول وحيوان غير مأكول، مثل
البغل يتولد من الحمار ويتولد من الخيل، فحينئذ قالوا: هنا درء المفاسد
مقدم على جلب المصالح فنحكم بتحريمه، ومثله -أيضا- لو اشتبهت أخته بأجنبية
فهنا اجتمع سببان سبب تحريم وسبب إباحة، فدرء المفاسد مقدَّم على جلب
المصالح.
وشيخ الإسلام يرى رأيا آخر في المسألة ويقول: إن اعتناء الشارع بالمأمورات
أكثر من اعتنائه بالمنهيات قد استدل على ذلك بأوجه عديدة، ولعل قول
الجمهور في هذه المسألة أقوى من قول شيخ الإسلام -رحمة الله على الجميع-،
وليعلم أن محل هذه القاعدة إذا تساوت المفاسد والمصالح.
أما
إذا كانت المصلحة أعظم من المفسدة فإننا نقدم المصلحة ولو كان في ذلك فعل
للمفسدة، ومن أمثلة ذلك المريض الذي لا يستطيع الوضوء، أو فاقد الماء
والتراب، هنا مفسدة في كونه سيصلي بدون طهارة، وهنا مصلحة وهو الصلاة،
فأيهما يقدَّم؟ مصلحة الصلاة أعظم من تلك المفسدة فيصلي ولو كان على غير
طهارة.
ومثاله -أيضا- السمع والطاعة لولاة الجور والظلم، فإن السمع والطاعة لهم
فيه مفسدة إعانتهم على ظلمهم، وفيه مصلحة انتظام أحوال الجماعة واستقرار
الأمة، وهذه المصلحة أعظم من تلك المفسدة، فتقدّم هذه المصلحة، فيُسمع
ويُطاع الظلمة من الولاة، ولو كان في ذلك نوع إعانة لهم؛ لأن هذه المفسدة
القليلة مغتفرة في مقابل تلك المصلحة العظيمة. هذا شيء مما يتعلق بهذه
القاعدة لعلنا ننتقل إلى القاعدة الأخرى. نعم.
منظومة القواعد الفقهية
الموضوع : تزاحم المفاسد! المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya