| سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى | |
|
|
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:28 | |
| الحديث الأول
عن أمير المؤمنين أبي حفصٍ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله عليه وسلم يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) . رواه إماما المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما من أصح الكتب المصنفة . الشرح بسم الله الرحمن الرحيم الإمام الحافظ النووي من أصحاب الشافعي الذين تعتبر أقوالهم ، ومن أشد الشافعية في الحرص على التأليف ، وأَلَّفَ في فنونٍ شتى ، في الحديث ومتعلقاته وفي اللغة كما في ( تهذيب الأسماء واللغات ) ، وهو في الحقيقة من أعلم الناس ، والظاهر والله أعلم أنه من أخلص الناس في التأليف ، لأن تأليفاته رحمه الله انتشرت في العالم الإسلامي ، لا تكاد تجد مسجداًَ إلا ويقرأ فيه ( رياض الصالحين ) ، وكتبه مشهورة مبثوثة في العالم مما يدل على صحة نيته ، فإن قبول الناس للمؤلفات من الأدلة على إخلاص النية وهو رحمه الله مجتهد والمجتهد يخطئ ويصيب ، وقد أخطأ رحمه الله في مسائل الأسماء والصفات فكان يؤول فيها لكنه لا ينكرها ، فمثلاً : { على العرش استوى } ، فيقول أهل التأويل معناها : استولى على العرش ، لكن لا ينكرون { استوى } ، لأنهم لو أنكروا الاستواء لكفروا إذا أنكروه تكذيباً لكنهم يصدقون ولكن يحرفونه ، مثل هذه المسائل ، إذا علمنا صدق نية النووي رحمه الله وكثرة ما انتفعت الأمة بمؤلفاته فإنها تغتفر ، ولقد ضل قومٌ أخذوا يسبونه سباًّ عظيماً من الخلف الخالفين ، حتى بلغني أن بعضهم قال : ( يجب أن يُحرق شرح النووي على صحيح مسلم ) ، نسأل الله العافية ، فالنووي نشهد له فيما نعلم من حاله بالصلاح ، وأنه مجتهد ، وأن كل مجتهد قد يصيب ، وقد يخطئ وإن أخطأ فله أجرٌ واحد وإن أصاب فله أجران ، وقد ألف مؤلفات كثيرة من أحسنها هذا الكتاب ( الأربعين النووية ) ،،،، وهي ليست أربعين بل اثنان وأربعون ، لكن العرب يحذفون الكسر في الأعداد ، فيقولون : أربعون وإن زاد واحداً أو اثنين أو نقص واحداً أو اثنين ، هذه الأربعون ينبغي لطالب العلم أن يحفظها ، لأنها منتخبة من أحاديث عديدة ، ومن أبواب متفرقة ، يعني لو جئنا إلى ( عمدة الأحكام ) ، ( عمدة الأحكام ) منتخبة لا شك لكنها في باب واحد باب الفقه ، أما هذه فهي من أبواب متفرقة متنوعة ، قوله : ( عن أمير المؤمنين أبي حفصٍ ) : أمير المؤمنين هو أبو حفص عمر بن الخطاب ، آلت إليه الخلافة ، بتعيين أبي بكر الصديق رضي الله عنه له ، فهو حسنةٌ من حسنات أبي بكر ، ونصبه في الخلافة شرعي ، لأن الذي عيَّنه أبو بكر ، وأبو بكر تعيَّن بمبايعة الصحابة له في السقيفة ، فخلافته شرعية كخلافة أبي بكر ، ولقد أحسن أبو بكر اختياراً حيث اختار عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يقول : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ............ الخ ، وفي قوله : ( سمعت ) : دليلٌ على أنه أخذ من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلا واسطة ، والعجب أن هذا الحديث لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر مع أهميته ، لكن له شواهد في القرآن والسنة : ففي القرآن : { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } هذه نية ، { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً } وهذه نية ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ عليها حتى ما تجعله في فِيِّ امرأتك ) ، قوله : ( تبتغي بها وجه الله ) هذه نية ، فالمهم أن معنى الحديث ثابت بالقرآن والسنة ، ولفظ الحديث انفرد به عمر رضي الله عنه ، لكن تلقته الأمة بالقبول التام حتى إن البخاري صدَّر كتاب الصحيح بهذا الحديث ،،،، يقول : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ) نتكلم أولاً على ما فيه من البلاغة ، الحديث : ( إنما الأعمال بالنيات ) : فيه من البلاغة : الحصر : وهو : ( إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه ) ، طريق الحصر في هذا الحديث : ( إنما ) ، لأن ( إنما ) تفيد الحصر ، إذا قلت ( زيدٌ قائم ) ما فيه حصر ، ( إنما زيدٌ قائم ) فيه حصر ، وأنه ليس إلا زيد قائماً فهذا أداة حصر ، وكذلك ( وإنما لكل امرئٍ ما نوى ) ، ونمشي في الحديث : ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، في الجملة الأخيرة من البلاغة : إخفاء نية من هاجر إلى الدنيا ، لقوله : ( فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، ولم يقل : ( إلى دنيا يصيبها ) ، الفائدة البلاغية في ذلك : هو تحقير ما هاجر إليه هذا الرجل ، يعني لي أهلاً لأن يذكر ، بل يُكنَّى عنه بقوله : ( إلى ما هاجر إليه ) ، ( من كانت هجرته إلى الله ورسوله ) ، الجواب : ( فهجرته إلى الله ورسوله ) ذكرها ، ( من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ يتزوجها – أو ينكحها – فهجرته إلى ما هاجر إليه ) ، ولم يقل : ( إلى دنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها ) ، لماذا ؟ تحقيراً لشأن ما هاجر إليه وهي الدنيا أو المرأة ، أما الأول : ( فهجرته إلى الله ورسوله ) فذكره تنويهاً بفضله ، أما من حيث الإعراب : وهو البحث الثاني : ( إنما الأعمال بالنيات ) مبتدأ وخبر ، ( الأعمال بالنيات ) : ( الأعمال ) مبتدأ ، و ( بالنيات ) خبره ، ( وإنما لكل امرئٍ ما نوى ) أيضاً مبتدأ وخبر ، لكن قُدِّمَ الخبر على المبتدأ ، لأن المبتدأ في قوله : ( وإنما لكل امرئٍ ما نوى ) هو : ( ما نوى ) متأخر ، قوله : ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ) : هذه جملة شرطية . أداة الشرط فيها : ( من ) ، وفعل الشرط : ( كانت ) ، وجواب الشرط ( فهجرته إلى الله ورسوله ) ، وهكذا نقول في : ( ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها .... ) في الإعراب ،،،،، أما في اللغة : فنقول : ( الأعمال ) : جمع عمل ، ويشمل : الأعمال القلبية والأعمال النطقية والأعمال الجوارحية ، يشمل : الأعمال كلها القلبية والنطقية والجوارحية ، الأعمال القلبية : ما في القلب من الأعمال . كالتوكل على الله والإنابة إليه والخشية منه وما أشبه ذلك ، هذه أعمال قلبية ، الأعمال النطقية : أعمال اللسان . وما أكثر أقوال اللسان ، لا أعلم شيئاً من الجوارح أكثر عملاً من اللسان ، اللهم إلا أن تكون العين أو الأذن ، الثالث : الجوارحية : أعمال اليدين والرجلين وما أشبه ذلك ، قوله : ( الأعمال بالنيات ) : النيات : جمع نية ، وهي : القصد ، ومحلها : القلب ، فهي عمل قلب وتعلق للجوارح بها ، قوله : ( وإنما لكل امرئ ) : لكل إنسان ، قوله : ( ما نوى ) : أي ما نواه ، هاتان الجملتان ، هل هما بمعنى واحد أو هما مختلفتان ؟ الجواب : يجب أن نعلم أن الأصل في الكلام التأسيس دون التوكيد ، ومعنى التأسيس يعني أن الثانية لها معنى مستقل ، ومعنى التوكيد أن الثانية بمعنى الأولى ، هذه ، ننظر ، بعض العلماء يقول : الجملتان بمعنىً واحد ، فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) . وأكد ذلك بقوله : ( وإنما لكل امرئٍ ما نوى ) هذا قولٌ لبعض العلماء ، وبعض العلماء قال : إن الثانية غير الأولى ، فالكلام من باب التأسيس لا من باب التوكيد ، فالقاعدة أيها الاخوة الطلبة أنه إذا دار الكلام بين تأسيساً أو توكيداً أن نجعله تأسيساً وأن نجعل الثاني غير الأول ، لأنك لو جعلت الثاني هو الأول صار في ذلك تكرار يحتاج إلى أن نعرف السبب ، والصواب : أن الثانية غير الأولى ، فالأولى : باعتبار المنوي وهو العمل ، والثانية : باعتبار المنوي له وهو المعمول له ، هل أنت عملت لله أو عملت للدنيا ؟ ويدل لهذا ما فَرَّعَهُ النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ) ، وعلى هذا فيبقى الكلام لا تكرار فيه ، قوله : ( الأعمال بالنيات ) : والمقصود من هذه النية تمييز العادات عن العبادات وتمييز العبادات بعضها عن بعض ، تمييز العادات عن العبادات : مثاله : الرجل يأكل الطعام شهوةً والرجل الآخر يأكل الطعام امتثالاً لأمر الله في قوله : { وكلوا واشربوا } ، صار أكل الثاني عبادة وأكل الأول عادة ، ثانياً : الرجل يسبح بالماء تبرداً والثاني يسبح بالماء للغسل من الجنابة ، الأول عادة والثاني عبادة ، ولهذا لو كان على الإنسان جنابة ثم انغمس في الماء للتبرد ثم صلى ، هل يجزؤه ذلك أو لا ؟ لا يجزؤه ، لا بد من النية وهو لم ينو التعبد وإنما نوى التبرد ، ولهذا قال بعض أهل العلم : عبادات أهل الغفلة عادات وعادات أهل اليقظة عبادات ، سبحان الله سبحان الله ، ( عبادات أهل الغفلة عادات ) : يقوم ويغسل ويصلي ويذهب على العادة ، و ( عادات أهل اليقظة عبادات ) : تجده إن أكل يريد امتثال أمر الله يريد إبقاء نفسه يريد ستر عورته يريد التكفف عن الناس يكون عبادة ، آخر لبس ثوباً جديداً يريد أن يزبعه يريد أن يترفه بثيابه أو يكشخ هذا لا يؤجر ، آخر لبس ثوباً جديداً يريد أن يعرف الناس قدر نعمة الله عليه وأنه غني هذا يؤجر ، في يوم الجمعة لبس أحسن ثيابه لأنها يوم الجمعة ، والثاني لبس أحسن ثيابه تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم ، أيهما العبادة ؟ الثاني ، وعلى هذا فقس ، يصلي الإنسان ركعتين أحدهما ينوي بذلك التطوع والثاني ينوي الفريضة ، تميز العملان أم لا ؟ تميزا ، هذا نفل وهذا واجب ، وعلى هذا فقس ، إذن القصد تمييز العبادات بعضها عن بعض كالنفل مع الفريضة أو تمييز العادات عن العبادات هذا المقصود بالنية ، النية محلها القلب لا ينطق بها إطلاقاً ، لأن تتعبد لمن { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } ، لست تعمل لإنسان حتى تقول : عملت هذا لك ، تعمل لله عز وجل ، ولهذا لم ينطق النبي صلى الله عليه وسلم بالنية أبداً ، والنطق بها بدعة ينهى عنه ، لا سراً ولا جهراً ، خلافاً لمن قال من أهل العلم : إنه ينطق بها جهراً ، وبعضهم قال : ينطق بها سراًّ ، وعللوا ذلك بأن يطابق اللسان القلب ، نقول : يا سبحان الله ، أين رسول الله عن هذا ؟ لو كان هذا من شرع الرسول لفعله هو وبينه للناس ، ويذكر أن عامياً من أهل نجد كان في المسجد الحرام وإلى جانبه رجل لا يعرف إلا الجهر بالنية ، الرجل النجدي هذا عامي ما يعرف شيء لما أقيمت صلاة الظهر قال الرجل الذي كان ينطق بالنية قال : اللهم إني نويت أن أصلي الظهر أربع ركعات لله خلف إمام المسجد الحرام ، فعندما أراد أن يكبر قال العامي : اصبر يا رجل باقي عليك ، قال : وماذا تبقى ؟ قال : قال باقي عليك التاريخ ما اليوم وما الشهر وما السنة ، ما حاجة تعلم ، إذا قال قائل : قول الملبي : لبيك اللهم عمرةً ولبيك اللهم حجاًّ ولبيك الله عمرةً وحجاًّ ، أليس هذا نطقاً بالنية ؟ فالجواب : لا ، هذا إظهاراً للشعيرة ، ولهذا قال بعض العلماء : إن التلبية في النسك كتكبيرة الإحرام في الصلاة ، يعني إذا لم تلبِّ ما انعقد إحرامك كما أن تكبيرة الإحرام لو لم تكبر ما انعقدت صلاتك ، إذن قول الملبي : لبيك عمرةً أو حجاًّ أو عمرةً وحجاًّ ، ليس إلا لإظهار هذه الشعيرة فقط ، ولهذا ليس من السنة أن نقول ما قاله الفقهاء رحمهم الله : اللهم إني أريد نسك العمرة فيسرها لي وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبسني ، لا تقل هكذا ، لأن هذا ذكر يحتاج إلى دليل ولا دليل ، إذن النية لغةً : القصد ، واصطلاحاً : نية العمل ، ومحلها القلب ، والنطق بها بدعة ، إذن أُنْكِرُ على من نطق بها أم لا ؟ أنكر عليه ، ولكن بهدوء ، أقول : يا أخي هذه ما قالها الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه فدعها ، فإذا قال : قالها فلان في كتابه الفلاني ، قل : القول ما قاله الله ورسوله ، ( وإنما لكل امرئٍ ما نوى ) هذه الأخيرة وهي نية المعمول له ، هي التي يتفاوت فيها الناس تفاوتاً عظيماً ، نعم ، يتفاوت فيها الناس تفاوتاً عظيماً ، تجد رجلان يصليان بينهما كما بين المشرق والمغرب في الثواب لأن أحدهما مخلص والثاني غير مخلص ، هذه يتفاوت فيها الناس تفاوتاً عظيماً ، تجد شخصين يطلبان العلم التوحيد أو الفقه أو التفسير أو الحديث ، أحدهما بعيد عن الجنة والثاني قريب منها وهما يقرءان في كتاب واحد وعلى مدرس واحد ، فالناس في الجملة الأخير ة يتفاوتون تفاوتاً عظيماً أبعد مما بين المشرق والمغرب أو مما بين السماء والأرض ، ( وإنما لكل امرئٍ ما نوى ) هذا رجل طلب الفقه ، لماذا يا أخي طلبت الفقه ؟ قال : لكي أكون قاضياً ، والقاضي له راتب رفيع ومرتبة رفيعة ، والثاني قيل له : لم طلبت الفقه ؟ قال : لأكون عالماً معلماً لأمة محمد ، بينهما فرق عظيم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من طلب علماً مما يُبتغى به وجه الله لا يريد إلا أن ينال عرضاً من الدنيا لم يَرَحْ رائحة الجنة ) أعوذ بالله ، أخلص النية ، صار الناس يختلفون في هذه الجملة : ( وإنما لكل امرئٍ ما نوى ) اختلافاً عظيماً ويتباعدون تباعداً عظيماً ، ثم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بالمهاجر : فقال : ( فمن كانت هجرته ) الهجرة : هي الترك ، والمراد بها الانتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام ، وهل هي واجبة أو سنة أو ما أشبه ذلك ، له بابٌ آخر ، لكن نريد أن نعرف الهجرة كهجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة أو من مكة إلى المدينة ، وهي مأخوذة من الهجر وهو الترك ، ( ومن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ) رجل انتقل من مكة قبل الفتح يريد الله ورسوله يعني يريد ثواب الله ويريد الوصول إلى الله ، كقوله تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الله ورسوله } ، ( يريد الله ) أي يريد وجه الله ونصرة دين الله وهذه إرادة حسنة ، ( رسوله ) يريد رسول الله ليفوز بصحبته والذب عنه ونشر دينه فهجرته إلى الله ورسوله ، والله تعالى يقول : ( من تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً ) ، فهو إذا أراد الله فإن الله تعالى يكافئه على ذلك بأعظم مما عمل وكذلك الرسول بعد موت الرسول عليه الصلاة والسلام ، هل يمكن أن تهاجر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ فالجواب : أما إلى شخصه فلا ، ولذلك لا نهاجر إلى المدينة من أجل شخص الرسول عليه الصلاة والسلام ، لأنه تحت الثرى ، وأما إلى سنته وشرعه فهذا وارد ، أذهب إلى بلد أنصر فيها شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام وأذود عنها ، هذه هجرة إلى رسول الله ، الهجرة إلى الله في كل وقت وحين ، الهجرة إلى رسول الله إلى شخصه وشريعته في حياته وإلى شريعته بعد مماته ، نظير هذا قوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } ، إلى الله دائماً ، وإلى الرسول في حياته وإلى شريعته بعد وفاته ، من ذهب مثلاً من البلد الفلاني إلى البلد الفلاني ليتعلم الحديث فهذا هجرته إلى الله ورسوله ، ومن هاجر من بلد إلى بلد لامرأة يتزوجها خطبها وقالت : لا أتزوجك إلا إذا حضرت إلى بلدي ، فهجرته إلى ما هاجر إليه ، ( أو دنياً يصيبها ) علم أن في البلد الفلاني تجارة رابحة فذهب إليها من أجل أن يربح فهذا هجرته إلى دنيا يصيبها ، .... انتهى الكلام على الحديث من حيث اللفظ والشرح .....
ولنا بقية لاتمام الفوائد من هذا الحديث.... الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:29 | |
| السلام عليكم ورحمة الله وبركاته استكمالا للحديث السابق .. فوائد الحديث أما الفوائد : فهذا الحديث أيها الأخوة ركن من أركان الإسلام وليس من الأركان الخمسة ، لكن على الإسلام مداره ، ولهذا قال العلماء : مدار الإسلام على حديثين هذا الحديث وحديث عائشة : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ، هذا الحديث عمدة أعمال القلوب فهو ميزان الأعمال الباطنة ، وحديث عائشة عمدة أعمال الجوارح فهو ميزان أعمال الجوارح ، ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) هذا رجل مخلص غاية الإخلاص يريد الوصول إلى الله عز وجل وإلى دار كرامته لكنه أتى ببدع كثيرة رجل مخلص لله عز وجل لكنه يعمل عملاً بدعياً ، هذا من جهة النية ، لكن من جهة العمل سيئ مردود ، لفقده موافقة الشريعة ، رجل آخر أتى بصلاة الفريضة على أتم وجه لكن يرائي والده ، قلنا : لماذا صليت مع الجماعة ؟ قال : خائف من أبي ، هذا فقد الإخلاص لا يثاب على ذلك ، إلا إذا كان يصلي خوفاً من أبيه أن يضربه على ترك الصلاة فيكون متعبداً لله تعالى بالصلاة ، من فوائد هذا الحديث : 1 – أنه يجب تمييز العبادات بعضها عن بعض والعبادات عن المعاملات ، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) فيجب أن تميز ولنضرب مثلاً : بالصلاة حتى لا تتشعب علينا العلوم ، الصلاة مثلاً إنسان أراد أن يصلي بعد الزوال ، ما هذه الصلاة ؟ بعد زوال الشمس الظهر يجب أن ينوي الظهر حتى تتميز عن غيرها إذا كان عليه ظهران ظهر أمس وظهر قبل أمس يجب أن يميز ظهر أمس عن ظهر قبل أمس ، لأن كل صلاة لها نية ، لو نوى بصلاة الظهر بعد زوال الشمس خرج من بيته متطهر وراح ودخل المسجد ولا في قلبه أنه ظهر ولا عصر ولا عشاء فقط أنه فرض الوقت ، تجزيء أم لا تجزيء ؟ على القاعدة : لا تجزيء ، لأنه ما عيَّن الظهر وهذا هو المذهب ، وإذا قلت لكم : المذهب ، يعني مذهب الحنابلة ، وقيل : تجزيء ، وهو رواية عن أحمد ، أنه إذا نوى فرض الوقت كفى ، وهذا القول هو الصحيح ، الذي لا يسع الناس العمل إلا به ، لأنه أحياناً يأتي إنسان مع العجلة على طول يكمل ويدخل مع الإمام بدون أن يقع في ذهنه أنها الظهر لكن وقع في ذهنه أنها فرض الوقت ولم يأتي إلا لهذا ، فعلى المذهب نقول : أعدها ، وعلى القول الصحيح ، نقول : لا تعدها ، وهذا يريح القلب ، لأن هذا يقع كثيراً حتى الإمام أحياناً يسج – معنى يسج لغة عامية هذه معنى يسج يسهو – ويكبر على أن هذا فرض الوقت ، فهذا على المذهب : لابد أن يعيد ، وعلى القول الراجح : لا يعيد وهو الذي لا يسع الناس إلا العمل به ، 2 – ومن فوائد هذا الحديث : الحث على الإخلاص لله عز وجل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الناس إلى قسمين : قسم أراد بعمله وجه الله والدار الآخرة ، وقسم بالعكس وهذا يعني الحث على الإخلاص لله عز وجل ، والإخلاص جديرٌ بالحث عليه ، لأنه هو الركيزة الأولى الهامة التي خلق الناس من أجلها قال الله تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ، ومنها مشروعية الهجرة لأنها انقسمت إلى : مقبولة ، ومردودة ، والمقبولة هي المشروعة وهو كذلك ، فالهجرة سنة مؤكدة وهي : ( الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام ) ، وإذا كان الإنسان في بلد الشرك لا يستطيع أن يظهر شعائر دينه وجب عليه أن يهاجر ، مثل : أن يضرب على الصلاة أو على الصيام أو على قراءة القرآن أو ما أشبه ذلك ، فهنا يجب أن يهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام ، 3 –و من فوائد هذا الحديث : حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وذلك بالتنويع تنويع الكلام وتقسيم الكلام ، لأنه قال : ( إنما الأعمال بالنيات ) وهذا للعمل ( وإنما لكل امرئٍ ما نوى ) وهذا للمعمول له ، ثانياً : الهجرة قسمها إلى قسمين : شرعية ، وغير شرعية ، وهذا من حسن التعليم ، ولذلك ينبغي للمعلم أن لا يسرد المسائل على الطالب سرداً ، لأن هذا يُنسى بل يؤصل يعني يجعل أصولاً ويجعل قواعد ويجعل تقسيماً ، لأن ذلك أدعى لثبوت العلم في قلبه ، أما أن تسرد عليه مسائل ما أسرع ما ينساها ، 4 – ومن فوائد هذا الحديث : قرن الرسول عليه الصلاة والسلام مع الله بالواو ، قال : ( إلى الله ورسوله ) ، ولم يقل : ( إلى الله ثم رسوله ) . مع أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ما شاء الله وشئت ، فقال : ( ما شاء الله وحده ) ، فما الفرق ؟ نقول : أما ما يتعلق بالشريعة : فبالواو ، لأن ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع كالذي صدر من الله ، كما قال الله عز وجل : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } ، وأما الأمور الكونية : فلا يجوز أن يقرن مع الله أحدٌ بالواو أبداً ، لأن كل شيءٍ تحت إرادة الله ومشيئته صار هذا هو الفرق ، فإذا قال قائل : هل ينزل المطر غداً ؟ قال : الله ورسوله أعلم ، ماذا نقول ؟ نقول : خطأ ، الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده علم بهذا ، إذا قال : هل هذا حرام أو حلال ؟ قال : الله ورسوله أعلم ؟ صحيح أم غير صحيح ؟ صحيح ، لأن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمور حكمٌ لله ، كما قال عز وجل : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } ، الهجرة من أي الأمور ؟ شرعية ، الهجرة شرعية ، الإنسان يهاجر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل أن يحمي شريعته ودينه ، هنا سؤال : أيهما أفضل العلم أو الجهاد في سبيل الله ؟ العلم أفضل ، العلم أفضل من حيث هو ، لأن الناس كلهم محتاجون إلى العلم ، وسمعتم قول الإمام أحمد : العلم لا يعدله شيء ، العلم من حيث هو علم أفضل من الجهاد ، ولا يمكن أبداً أن يكون الجهاد فرض عين ، لقول الله تعالى : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } ، فلو كان فرض عين لوجب على جميع المسلمين ، { فلولا نفر من كل فرقةٍ طائفة } يعني وقعدت طائفة، { ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } ، قلت لكم : العلم من حيث هو علم أفضل من الجهاد في سبيل الله ، لكن باعتبار أحوال وأشخاص قد يكون الجهاد أفضل ، مثال ذلك : جاءنا رجل شجاع مقدام قوي جسمه كالبعير لكن ذهنه ذهن بليد ، بليد لا يفهم ، فجاء يسأل أيهما أفضل له : الجهاد أو طلب العلم ؟ الجهاد لأنه أنفع ، رجل مقدام شجاع نشيط يمسك الرجلين والثلاثة من العدو ويغفصه هذا أفضل في الجهاد ، رجل آخر نحيف جبان لو يتحرك الباب من الهواء فزع ولكنه في العلم قوي حافظ ذكي مثابر محب للعلم ، ماذا نقول له ؟ العلم أفضل بلا شك ، حصر العدو البلد ، وواحد في المكتبة يطالع ، فقال : العلم لا يعدله شيء أفضل ، وآخر قال : اذهب ادفع عن البلد لو احتل الكفار البلد لذهب ما فيه ، أيهما أفضل ؟ أن يبقى في مكتبته أو أن يدافع عن البلد ؟ أن يدافع عن البلد ، فيختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ، لكن من حيث الجنس : جنس العلم أفضل من جنس الجهاد في سبيل الله ، قوله : ( إنما الأعمال بالنيات ) : هل يدخل في ذلك الطلاق أي أنه على نية المطلق أو لا ؟ إذا قال الرجل لزوجته : أنتِ طالق ، أي غير مقيدة اليدين والرجلين ، يقع الطلاق أو لا ؟ لا يقع ، إنما الأعمال بالنيات ، لكن هل يُصدق أو لا يُصدق ؟ إن كان أميناً يخشى الله عز وجل صُدِّقْ ، ووجب على الزوجة ألا تطالبه ، وإن كان بالعكس وجب أن ترافعه إلى القاضي ، والقاضي يحكم بالظاهر ، ويقول : ليس لنا إلا ما سمعنا ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما أقضي بنحو ما أسمع ) ،
]المهم يا إخوان أن هذا الحديث عظيم تنبني عليه كل الأعمال الباطنة التي محلها القلب ، قال المؤلف رحمه الله تعالى : ( رواه إمام المحدثين محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة البخاري ) من بخارى وهو إمام المحدثين ، و ( مسلم ) قشيري ، ( في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المصنفة ) صحيح البخاري وصحيح مسلم هما أصح الكتب المصنفة في علم الحديث ، ولهذا قال بعض المحدثين : إن ما اتفقا عليه يفيد العلم ، يعني ليس يفيد الظن فقط يفيد العلم ، وأيهما أصح ؟ البخاري أصح من مسلم ، لأنه يشترط في الرواية أن يكون الراوي قد لقي من روى عنه ، وأما مسلم رحمه الله فيكتفي بمطلق المعاصرة إن لم يثبت لقيه ، وقد أنكر على من يشترط اللقاء في أول الصحيح إنكاراً عجيباً ، فالصواب ما ذكره البخاري لابد من ثبوت اللقي ، ومسلم يقول يكفي إمكان اللقي وإن لم يثبت لقاؤه ، وبهذا صار البخاري أصح ، لكن ذكر العلماء أن سياق مسلم أحسن من سياق البخاري ، لأنه رحمه يذكر الحديث ثم يذكر شواهده وتوابعه في مكانٍ واحد ، والبخاري يفرق ، ففي الصناعة مسلم أفضل ، وأما في الرواية والصحة فالبخاري أفضل ، قال بعض أهل العلم : ولولا البخاري ما ذهب مسلمٌ ولا راح ، فالحديث إذن صحيح أم غير صحيح ؟ صحيح ، يفيد العلم اليقيني ، لكنه ليس يقينياً بالعقل ، إنما هو يقينيٌّ بالنظر ، لثبوته عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،،،،
وحتى نلتقي مع الحديث الثاني استودعكم الله الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:29 | |
| الحديث الثاني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً : بينما نحن جلوسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ دخل علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفر ، ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه ، وقال : يا محمد ، أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً ) ، قال : صدقت ، فعجبنا له يسأله ويصدقه ، قال : فأخبرني عن الإيمان ، قال : ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) ، قال : فأخبرني عن الإحسان ، قال : ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ، قال : فأخبرني عن الساعة ، قال : ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ) ، قال : فأخبرني عن أماراتها ، قال : ( أن تلد الأَمَةُ ربتها ، وأن تجد الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان ) ، ثم انطلق فلبثت ملياَّ ، ثم قال : ( يا عمر ، أتدري من السائل ؟ ) ، قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ( فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ).. رواه مسلم .
الشرح قوله : ( بينما ) : هذه هي ( بينا ) ، ولكن ( ما ) زيدت فيها ، والأصل ( بينا نحن ) فـ ( ما ) زيدت للتوكيد ، قوله : ( جلوسٌ ) : مبتدأ ، وخبره : ( عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) ، و ( ذات ) تفيد النكرة أي في يوم من الأيام ، وتستعمل في اللغة على وجوهٍ متعددة : فتارة تكون بمعنى صاحبة ، وتارة تكون اسماً موصولاً ، وتارة تكون بمعنى النكرة الدالة على العموم ، وهذا أغلب ما تستعمل ، فـ ( ذات يوم ) يعني في يومٍ من الأيام ، وتستعمل بمعنى صاحبة . مثل : ( ذات النطاقين ) : أي صاحبة ، وتستعمل اسماً موصولاً عند : ( طيء ) ، وهم قومٌ من العرب يستعملون ( ذات ) بمعنى ( التي ) ، قال ابن مالك رحمه الله : وكالتي أيضاً لديهم ذات فكأن يقول مثلاً بعت عليك بيتي ذات اشتريت يعني التي اشتريت ، ( رجل ) مبهم وهو رجلٌ في شكله لكن حقيقته أنه مَلَكْ ، قوله : ( شديد بياض الثياب ) : يعني عليه ثياب رجل عادي ، قوله : ( شديد سواد الشعر ) : يعني أنه شاب ، قوله : ( لا يرى عليه أثر السفر ) : لأن ثيابه بيضاء وشعره أسود ، ليس فيه غبار ولا شَعَثُ السفر ، ولهذا قال : ( لا يرى عليه أثر السفر ) ، لأن المسافر في ذلك الوقت يرى عليه أثر السفر يكون أشعث رأسه ويكون مغبراً وتكون ثيابه غير ثياب الحضر لكن هذا لا ، قوله : ( ولا يعرفه منا أحد ) : لاحظ يعني ليس من أهل المدينة المعروفين فهو غريب ، قوله : ( جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ) لم يقل : ( عنده ) ليفيد الغاية أي أن جلوسه كان ملاصقاً للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولهذا قال : ( أسند ركبتيه إلى ركبتيه ) ، قوله : ( ووضع كفيه على فخذيه ) : أي كفي هذا الرجل ، قوله : ( على فخذيه ) : على فخذي هذا الرجل ليس على فخذي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهذا من شدة الاحترام ، قوله : ( وقال : يا محمد ) : ولم يقل : ( يا رسول الله ) ليوهم أنه أعرابيٌّ لأن الأعراب ينادون النبي صلى الله عليه وسلم باسمه العَلَمَ وأما أهل الحضر فينادونه بوصف النبوة أو الرسالة ، قوله : ( أخبرني عن الإسلام ) : يعني ما هو الإسلام ؟ أخبرني عنه ، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ) ، قوله : ( تشهد ) : أي تقر وتعترف بلسانك وقلبك فلا يكفي اللسان ، بل لا بد من اللسان والقلب قال الله عز وجل : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } ، نعرب ( لا إله إلا الله ) : هذه جملة منفية بـ ( لا ) التي لنفي الجنس وهي أعم من النفي ، نفي الجنس أعم من النفي ، واسمها قوله : ( إله ) : وخبرها محذوف ، والتقدير ( حقٌ ) ، تقدير المحذوف ( حقٌ ) ، وقوله : ( إلا ) : أداة حصر ، والاسم الكريم لفظ الجلالة من خبر ( لا ) المحذوفة وليس خبرها ، لماذا لا يكون خبرها ؟ لأن ( لا ) النافية للجنس لا تعمل إلا في النكرات ، فصارت الجملة الآن فيها شيءٌ محذوف ، ما هو ؟ الخبر تقديره ( حقٌ ) ، أي ( لا إله حقٌ إلا الله عز وجل ) وهناك آلهة باطلة تسمى آلهة وليست آلهة ، قوله : ( وأن محمداً رسول الله ) : يعني وتشهد أن محمداً رسول الله ، ولم يقل : أني رسول الله ، مع أن السياق يقتضيه لأنه يخاطبه لكن إظهاره باسمه العَلَم أوكب وأشد تعظيماً ، وقوله : ( محمد ) : هو محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي من ذرية إسماعيل ، وليس من ذرية إسماعيل رسولٌ سواه ، وهو المَعْنِيُّ بقوله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل : { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك } ، قوله : ( رسول ) : بمعنى مرسل ، والرسول : هو الذي أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ، قوله : ( وتقيم الصلاة ) : أي تأتي بها قائمة تامة معتدلة ، وكلمة ( الصلاة ) يشمل الفريضة والنافلة ، قوله : ( وتؤتي ) : بمعنى تعطي ، و ( الزكاة ) : هي المال الواجب بذله لمستحقه من الأموال الزكوية . كالذهب والفضة والماشية والثمار . وإن شئت قل : الخارج من الأرض وعروض التجارة . هذه الأموال الزكوية ، قوله : ( وتصوم رمضان ) : أي تمسك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، واصل الصيام في اللغة الإمساك ، و ( رمضان ) هو الشهر المعروف بين شعبان وشوال ، قوله : ( وتحج البيت ) : أي تقصد البيت لأداء النسك ، فقال : ( صدقت ) القائل : ( صدقت ) من ؟ جبريل وهو السائل فكيف يقول : ( صدقت ) وهو السائل ؟ لأن الذي يقول : ( صدقت ) للمتكلم يعني أن عنده علماً سابقاً علم أن هذا الرجل أصابه وهو محل عجب ، ولهذا تعجب الصحابة ( كيف يسأله ويصدقه ؟ ) لكن سيأتي إن شاء الله بيان هذا ، نعود نشرح هذه الأركان الخمسة فنقول : الركن الأول : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وهنا نسأل : لماذا جُعِلَ هذان ركناً واحداً لم يجعلا ركنين ؟ والجواب : أن الشهادة بهذين تنبني عليها صحة الأعمال كلها ، لأن شهادة أن لا إله إلا الله تعني الإخلاص أو تستلزم الإخلاص ، وشهادة أن محمداً رسول الله تستلزم الاتباع ، وكل عمل يُتَقَرَّبُ به إلى الله لا يقبل إلا بهذين الشرطين : الإخلاص لله ، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، أن تشهد أن لا إله إلا الله يعني بقلبك ولسانك فالقلب لا يكفي واللسان لا يكفي اللهم إلا أن يكون الشاهد بلسانه أخرس لا يستطيع النطق فإنه يكفي للعجز ، الشهادة باللسان لا تكفي ، بدليل : أن المنافقين يشهدون لله عز وجل بالوحدانية ، ولكنهم يشهدون بماذا ؟ بألسنتهم { فيقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } فلا ينفعهم ، وهم يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يؤكدون له أنهم يشهدون أنه رسول الله والله يعلم أنه رسول الله ولكن يشهد إن المنافقين لكاذبون ، ( أن لا إله إلا الله ) يعني ألا يوجد معبودٌ إلا الله ألا يوجد معبودٌ حقٌ ؟ الثاني يتعين هذا ، لأنه يوجد معبودات من دون الله معبودات تسمى آلهة ، قال الله تعالى : { فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء } ، وقال تعالى : { أم لهم آلهةٌ تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يسحبون } ، وقال تعالى : { ولا تدع مع الله إلهاً آخر } ، فالمهم أن المراد بـ ( لا إله إلا الله ) أي لا إله حقٌ إلا الله وما سواه فهو باطل ، قال الله عز وجل : { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير } ، فإذا جاء المشرك إلى هذا التمثال يركع ويسجد ويخشع وينتحب وربما يُغمى عليه فعبادته باطلة ، ومعبوده باطل أيضاً ، و ( الله ) علمٌ على الرب عز وجل لا يسمى به غيره وهو أصل الأسماء ، ولهذا تأتي الأسماء تابعةً له ، ولا يأتي تابعاً للأسماء إلا في آية واحدة ، وهي قوله تعالى : { إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات والأرض } ، لكن اللفظ هنا ( الله ) الاسم الكريم بدل من ( العزيز ) وليست صفة ، لأن جميع الأسماء إنما تكون تابعةً لهذا الاسم العظيم ، هل هذه الشهادة تدخل الإنسان في الإسلام ؟ الجواب : نعم ، تدخله في الإسلام ، حتى لو ظننا أنه قالها تعوذاً فإننا نعصمه نعصم دمه وماله ، ولو ظننا أنه قالها كاذباً ، ودليل ذلك : قصة المشرك الذي أدركه أسامة بن زيد رضي الله عنه حين هرب المشرك فلما أدركه أسامة قال : لا إله إلا الله ، انظر قال : ( لا إله إلا الله ) فقتله أسامة ظناًّ منه أنه قالها تعوذاً من القتل يعني قالها لئلا يقتل فقتله فلما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جعل يردد : ( أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ) قال : يا رسول الله إنما قالها تعوذاً ، فجعل يردد : ( أقتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله )قال أسامة : فتمنيت أن لم أكن أسلمت ، من شد ما وجد ، إذن نحن ليس لنا إلا الظاهر ، حتى لو غلب علينا أنه قالها تعوذاً عصمته ، نعم لو ارتد بعد ذلك قتلناه ، وهذا يوجد من جنود الكفر إذا أسرهم المسلمون قالوا : أسلمناه من أجل أن يعصموا أنفسهم من القتل ، فيسأل المجاهدون يقولون : هل نقتل هؤلاء بعد أن قالوا : أسلمنا ، بعد أن قالوا : لا إله إلا الله ؟ نقول : حديث أسامة يدل على أنهم لا يقتلون ، ولكن يراقبون إذا ظهر منهم ردة قتلوا ، لأنهم بشهادة أن لا إله إلا الله تلزمهم أحكام الإسلام ، فإن كان الكافر يقول : لا إله إلا الله ، لكن لا يشهد أن محمداً رسول الله ، فهل يكفيه ذلك ؟ لا يكفيه ، حتى يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، وعلى هذا فالكافر يدخل في الإسلام بمجرد أن يقول : لا إله إلا الله ، فإن كان يقولها لكنه ينكر رسالة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا بد أن يضيف إليها شهادة أن محمداً رسول الله ، وإذا كان مسلماً وشهد أن لا إله إلا الله ومات على ذلك ، فهل هذا يكفي ؟ الجواب : يكفي ، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( من كان آخر كلامه : لا إله إلا الله دخل الجنة ) وإنما اكتفي بـ ( لا إله إلا الله ) ، لأن هذا الميت يقر بأن محمداً رسول الله ليس عنده فيها إشكال ، تستلزم شهادة أن لا إله إلا الله إخلاص العبادة لله ، ولهذا يسمى هذا النوع من التوحيد يسمى توحيد الألوهية ويسمى توحيد العبادة ، لأن معنى ( لا إله إلا الله ) أي لا معبود إلا الله ، إذن لا تعبد غير الله ، فمن قال : ( لا إله إلا الله ) وعبد غير الله فهو كاذب ، إذ أن هذه الشهادة تستلزم إخلاص العبادة لله عز وجل وطرد الرياء والفخر وما أشبه ذلك ، وقوله : ( أن محمداً رسول الله ) : لا بد أن تشهد أن محمداً رسول الله ، أي مرسله إلى الخلق ، والرسول كما قلنا قبل قليل : هو الذي أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ، وكان الناس قبل نوح على ملةٍ واحدة لم يحتاجوا إلى رسول ثم كثروا واختلفوا فكانت حاجتهم إلى الرسل فأرسل الله الرسل ، قال الله عز وجل : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } ،إذن إنما بعثت الرسل حينما اختلفت الناس ليحكموا بين الناس بالحق ، ولهذا كان أول الرسل نوحاً وآخرهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، إذن نؤمن بأن محمد رسول الله ، ولا بد أن نؤمن بأنه خاتم النبيين .
للشرح بقية نكتبه لاحقا باذن المولى سبحانه .. الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:30 | |
| ومما سبق يُعلم خطأ المؤرّخين الذين قالوا: إن هناك رسولاً أو أكثر قبل نوح، فليس قبل نوح عليه السلام رسول بدليل قول الله تعالى:d])إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنبيينَ مِنْ بَعْدِهِ)(النساء: الآية163] وقال الله عزّ وجل : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب)(الحديد: الآية26) أي في ذريتهم خاصة.
ومن السنة في قصة الشفاعة أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له: أَنْتَ أَوَّلُ رَسُوْلٍ أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ [15]فعقيدتنا أن أول الرسل نوحٌ عليه السلام، وآخرهم: محمد صلى الله عليه وسلم . فمن ادعى النبوة بعد محمد فحكمه أنه كافر،لقول الله تعالى: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النبيينَ )(الأحزاب: الآية40) ولم يقلْ سبحانه وخاتم الرسل ، مع أنه قال رسول الله بالأول، لأنه إذا كان خاتم النبيين فهو خاتم الرسل، إذ لارسالة إلا بعد النبوة، فإذا انتفت النبوة من بعده فالرسالة من باب أولى.
شهادة أن محمداً رسول الله تستلزم أموراً منها:
الأول: تصديقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، بحيث لايكون عند الإنسان تردد فيما أخبر به صلى الله عليه وسلم ، بل يكون في قلبه أشد مما نطق،كما قال عزّ وجل في القرآن: (إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(الذريات: الآية23) فالإنسان لايشك فيما ينطق به،كذلك ماينطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم لانشك فيه، ونعلم أنه الحق، لكن بيننا وبينه مفاوز وهو السند، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس أمامنا لكن إذا ثبت الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وجب علينا تصديقه،سواء علمنا وجهه أم لم نعلمه، أحياناً تأتي أحاديث نعرف المعنى لكن لانعرف وجهها، فالواجب علينا التصديق.
الثاني: امتثال أمره صلى الله عليه وسلم ولانتردد فيه لقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )(الأحزاب: الآية36) ولهذا أقول:من الخطأ قول بعضهم: إنه إذا جاءنا الأمر من الله ورسوله بدأ يتساءل فيقول: هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ كمايقوله كثير من الناس اليوم،وهذا السؤال يجب طرحه وأن لايورد؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم إذا أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يقولون يارسول الله: هل الأمر للوجوب أو الأمر للاستحباب أو غير ذلك؟ بل كانوا يمتثلون ويصدقون بدون أن يسألوا. نقول: لاتسأل وعليك بالامتثال، أنت تشهد أن محمداً رسول الله فافعل ما أمرك به.
وفي حالة ما إذا وقع الإنسان في مسألة وخالف الأمر، فهنا له الحق أن يسأل هل هو للوجوب أو لغير الوجوب، لأنه إذا كان للوجوب وجب عليه أن يتوب منه لأنه خالف، وإذا كان لغير الوجوب فأمره سهل.
ثالثاً : أن يجتنب ما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه بدون تردد، لايَقُلْ: هذا ليس في القرآن فيهلك، لأننا نقول: ما جاء في السنة فقد أمر القرآن باتباعه. ولقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا وأمثاله الذي يقول هذا ليس في القرآن فقال: لاَ ألْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ عَلَى أَرِيْكَتِه أي جالساً متبختراً متعاظماً يَأْتِيْهِ الأَمْرُ مِنْ عِنْدِيْ فَيَقُولُ مَا أَدْرِيْ، مَا كَانَ فِيْ كِتَابِ اللهِ اِتَّبَعْنَاهُ [16] أي وما لم يكن لانتبعه، مع أننا نقول : كل ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء في القرآن، لأن الله تعالى قال: ( وَاتَّبِعُوهُ ) (الأعراف: الآية158) وهو عام في كل ماقال.
رابعاً : أن لايقدم قول أحدٍ من البشر على قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلىهذا لايجوز أن تقدم قول فلان - الإمام من أئمة المسلمين - على قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأنك أنت والإمام يلزمكما اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم . وماأعظم قول من إذا حاججته وقلت: قال رسول الله ، قال: لكن الإمام فلان قال كذا وكذا، فهذه عظيمة جداً، إذ لايحل لأحد أن يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول أحد من المخلوقين كائناً من كان حتى إنه ذُكِر عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يُوْشكُ أَن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله وتقولون قال أبوبكر وعمر [17] ومن إمام هذا الرجل المجادل بالنسبة إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
خامساً : أن لايبتدع في دين الله مالم يأتِ به الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء عقيدة، أو قولاً، أو فعلاً، وعلى هذا فجميع المبتدعين لم يحققوا شهادة أن محمداً رسول الله، لأنهم زادوا في شرعه ماليس منه، ولم يتأدبوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم .
سادساً : أن لايبتدع في حقه ماليس منه، وعلى هذا فالذين يبتدعون الاحتفال بالمولد ناقصون في تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله، لأن تحقيقها يستلزم أن لاتزيد في شريعته ماليس منه.
سابعاً :أن تعتقد بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له شيء من الربوبية، أي أنه لايُدعى، ولايُستغاث به إلا في حياته فيما يقدر عليه، فهو عبد الله ورسوله : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ )(الأعراف: الآية188] وبهذا نعرف ضلال من يدعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنهم ضالون في دينهم، سفهاء في عقولهم، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم لايملك لنفسه نفعاً ولاضراً فكيف يملك لغيره؟ ولهذا أمره الله أن يقول: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) [الجن:21-22] أي أنه هو عليه الصلاة والسلام لو أراد الله به ما يريد ما استطاع أحد من الناس أن يمنع إرادة الله فيه. إذا كان كذلك فمن الضلال البيّن أن يستغيث أحدٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هذا من الشرك، فلو جاء إنسان مهموم مغموم إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يارسول الله أغثني فإني مهموم مغموم، فيكون هذا مشركاً شركاً أكبر، لأنه دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوة الميت أن يغيثك أو يعينك شرك، لأنه غير قادر، فهو جسد وإن كانت الروح قد تتصل بالجسد في القبر لكن هو جسد، وهذا لاينافي أن يكون حياً في قبره حياة برزخية لاتشبه حياة الدنيا.
ثامناً: احترام أقواله، بمعنى أن يحترم أقوال النبي صلى الله عليه وسلم فلاتضع أحاديثه عليه الصلاة والسلام في أماكن غير لائقة، لأن هذا نوع من الامتهان، ومن ذلك: أن لا ترفع صوتك عند قبره، وقد سمع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلين قدما من الطائف فجعلا يرفعان أصواتهما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لَوْلاَ أَنَّكُمَا مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ لأَوْجَعْتُكُمَا ضَرْبَاً[18] لأن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي صلى الله عليه وسلم وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات:2) .
ولماَ نزلت هذه الآية كان رجل من الصحابة يقال له: ثابت بن قيس رضي الله عنه ممن يخطب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان جهوري الصوت، فلما نزلت هذه الآية بقي في بيته يبكي ليلاً ونهاراً رضي الله عنه هؤلاء الذين يعلمون قدر القرآن الكريم، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم لأن من عادة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتفقّد أصحابه، وهذا من حسن رعايته صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فقالوا: يارسول الله إن الرجل منذ أنزل الله تعالى هذه الآية وهو في بيته يبكي ليلاً ونهاراً، فقال صلى الله عليه وسلم : (اِذْهَبْ فَادْعُهُ لِي فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: مَايُبْكِيْكَ يَاثَابِتُ فقال:أنا صيّت وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ.، لأن الله تعالى يقول: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات:2] فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيْشَ حَمَيدَاً، وَتُقْتَلَ شَهِيْدَاً، وَتَدْخُلَ الجَنَّة [19] ، الله أكبر،كل من خاف من الله أمن، فهو بقي في بيته خائفاً من الله عزّ وجل ولكن أمَّنه الله ، ولهذا يجب علينا وجوباً أن نشهد أن ثابت بن قيس رضي الله عنه من أهل الجنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بهذا. فبقي الرجل حميداً في حياته وشارك المسلمين في قتال مسيلمة الكذاب، وغزوة مسيلمة الكذاب معروفة ومشهورة في التاريخ، وقتل رضي الله عنه شهيداً، ويدخل الجنة، اللهم اجعلنا من أهل الجنة يارب العالمين.
وقع في قصته رضي الله عنه أيضاً مسألة غريبة: مر به أحد الجنود وهو ميت وعلى ثابت رضي الله عنه درع جيد، فأخذ الجندي الدرع منه ثم ذهب به إلى رحله وجعل عليه برمة - والبرمة قدر من الخزف - وفي الليل رأى أحد أصحاب ثابت ثابتاً رضي الله عنه في المنام وأخبره الخبر وقال له: مر بي رجل من الجند وأخذ درعي ووضعه تحت برمة في طرف العسكر وحوله فرس تستن، أي رافعة إحدى قوائمها، فلما أصبح الرجل الذي رأى هذه الرؤيا أخبر بها القائد خالد بن الوليد رضي الله عنه فأرسله إلى المكان، ولما أرسله إلى المكان وجد الأمر كما قال ثابت - فسبحان الله العظيم - ما الذي أعلم ثابتاً وهو ميت،لكن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، فأخذ الدرع.
كما أن ثابتاً رضي الله عنه أوصى بوصية بعد موته، وأُبلِغَت أبا بكر رضي الله عنه فنفذ الوصية، قالوا: ولايوجد أحد نفذت وصيته التي أوصى بها بعد موته إلا ثابت بن قيس رضي الله عنه، لكن يشكل على هذا كيف نعتبر الرؤيا في تنفيذ الوصية؟
والجواب: أنه إذا دلت القرائن على صدق الرؤيا نُفذت الوصية ولاحرج. ولقد حدثني رجل أثق به يقول: إنه مات أبوه وكان قد استأجر البيت الذي تركه بعد موته لمدة كذا سنة، فلما مات أتى أهل البيت الذين يملكون رقبة البيت وقالوا للورثة: اخرجوا عن البيت، البيت بيتنا، فقالوا: لن نخرج، بين مورّثنا وبينكم عقد لم ينتهِ بعد، فقالوا:بل انتهى العقد، ففزع الورثة من هذه الدعوى وضاقت بهم الأرض، يقول: فلما كان ذات ليلة رأيت في المنام أن أبي أطل علينا من فرجة المجلس وقال لهم: العقد في أول صفحة من الدفتر لكنه لاصق في جلدة الدفتر، فلما أصبح وفتح أول صفحة وجد العقد.
سبحان الله، فالله تعالى قد يخبر بعض الموتى ببعض ما يحصل على أهله، لكن هذه مسائل ليست لكل أحد.
وتقيم الصلاة أي تأتي بها قويمة، ولاتكون قويمة إلا بفعل شروطها وأركانها وواجباتها - وهذا لابد منه - وبمكملاتها، فهذا يكون أكمل.
ولاحاجة لشرح هذه لأنها معروفة في كتب الفقه[20]
وقوله الصّلاةَ يشمل كل الصلاة:الفريضة والنافلة،وهل تدخل صلاة الجنازة أو لا؟
يحتمل هذا وهذا، إذا نظرنا إلى عموم اللفظ قلنا: إنها داخلة لأنها صلاة،كما قال الله عزّ وجل : (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً ) (التوبة: الآية84) ‘ وإن نظرنا إلى أن صلاة الجنازة صلاة طارئة حادثة يقصد بها الشفاعة للميت قلنا: لاتدخل في هذا الحديث، لكن تدخل في عموم الأمر بإحسان.
وَتُؤْتي الزَّكَاةَ تؤتي بمعنى تعطي، والزكاة هي: المال الواجب في الأموال الزكوية، فيعطيه الإنسان مستحقه تعبّداً لله عزّ وجل ورجاءً لثوابه.
مثال ذلك: الدراهم والدنانير فيهما زكاة، وهي ربع ا لعشر، أي تأخذ ربع العشر وهو واحد من أربعين وتعطيه المستحق.
وقد بيّن الله عزّ وجل أهل الزكاة في سورة التوبة أنهم ثمانية أصناف فقال عزّ وجل: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ )(التوبة: الآية60) أي فرضها الله علينا أن نعطيها هؤلاء ولا نعطي غيرهم: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(التوبة: الآية60) وتفاصيل ذلك مذكورة في كتب الفقه ولاحاجة إلى تفصيله هنا[21] .
وَتَصُوْمَ رَمَضَانَ بأن تمسك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس تعبّداً لله تعالى.
والمفطرات أيضاً معروفة لاحاجة إلى ذكرها[22] ولكن ننبّه على شيء مهمّ فيها: أن المفطرات لاتفطر الصائم إلا بثلاثة شروط: أن يكون عالماً، وأن يكون ذاكراً، وأن يكون مريداً.
فضدّ العالم الجاهل، فلو أكل الصائم يظن أن الليل باقٍ ثم تبين أنه قد طلع الصبح وهو يأكل فحكم الصوم أنه صحيح.
ولو أكل يظن غروب الشمس ثم تبين أنها لم تغرب فالصوم صحيح، ودليل ذلك: ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس [23] ولم يأمرهم بالقضاء، فلو كان القضاء واجباً لكان يبينه النبي صلى الله عليه وسلم ولنُقِلَ إلينا، لأنه إذا كان واجباً لكان القضاء من شريعة الله، ولابد أن تنقل، وهو داخل في عموم قوله تعالى: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )(البقرة: الآية286) وقوله: ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ)(الأحزاب: الآية5).
ولو أكل غير مريد للأكل أو شرب غير مريد للشرب بأن كان مكرهاً فصيامه صحيح، ومن ذلك:أن يكره الرجل زوجته فيجامعها وهي صائمة، فليس عليها شيء لاقضاء ولاكفّارة.
هذه مهمة لأن كثيراً من الفقهاء يقولون: إن الإنسان إذا أكل جاهلاً بالوقت سواء من أول النهار أو آخره وجب عليه القضاء إذا تبيّن أنه قد أكل في النهار، ولكن يقال: إن الذي شرع الصوم للعباد هو الذي رفع عنهم الحرج بهذه الأعذار.
وَتَحُجّ البَيْتَ أي تقصده. لأداء المناسك في وقت مخصوص تعبّداً لله تعالى.
وهل يدخل في ذلك العمرة أو لا ؟
فيه خلاف بين العلماء: فمنهم من قال: إن العمرة داخلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : العُمْرَةُ حَجٌّ أَصْغَر[24] لأنه وردت روايات في نفس الحديث فيها ذكر العمرة.
والصحيح أن العمرة دون الحج، أي ليست من أركان الإسلام لكنها واجبة يأثم الإنسان بتركها إذا تمّت شروط الوجوب.
إِنِ اسْتَطَعْتَ إَلِيْهِ سَبِيْلاً مأخوذ من قوله تعالى: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً )(آل عمران: الآية97) قد يقول قائل: هذا الشرط في جميع العبادات لقول الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(التغابن: الآية16) فلماذا خص الحج؟
نقول: خص الحج لأن الغالب فيه المشقة والتعب وعدم القدرة، فلذلك نص عليه وإلا فجميع العبادات لابد فيها من الاستطاعة.
قَالَ:صَدَقْتَ) أي أخبرت بالحق، والقائل هو جبريل عليه السلام.
قَالَ عُمَرُ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلهُ وَيُصَدِّقُه ووجه العجب أن السائل عادة يكون جاهلاً، والمصدّق يكون عالماً فكيف يجتمع هذا وهذا، ومثاله: لوقال قائل: فلانٌ قدم من المدينة، فقال بعضهم:صدقت، فمقتضى ذلك أنه عالم، فكيف يسأل جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول صدقت؟ هذا محل عجب، وستأتي الحكمة في ذلك.
قَالَ: فَأَخْبِرني عَنِ الإِيمَانِ قال: أي جبريل، فأخبرني: أي يامحمد عن الإيمان؟
والإيمان في اللغة: هو الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول والإذعان وهو مطابق للشرع.
وأما قولهم: الإيمان في اللغة التصديق ففيه نظر، لأنه يقال: آمنت بكذا وصدقت فلاناً ولايقال: آمنت فلاناً، بل يقال: صدقه، فصدق فعل متعدٍ، وآمن فعل لازم، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - باستفاضة في كتابه: (كتاب الإيمان.
وقولنا: الإيمان المستلزم للقبول والإذعان احترازاً مما لو أقر لكن لم يقبل كأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ،حيث أقر بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنه صادق لكن لم يقبل ماجاء به - نسأل الله العافية - ولم يُذعن ولم يتابع، فلم ينفعه الإقرار، فلابد من القبول والإذعان.
ولذلك يخطئ خطأً كبيراً من يقول: إن أهل الكتاب مؤمنون بالله، وكيف يكون ذلك وهم لم يقبلوا شرع الله ولم يذعنوا له، فاليهود والنصارى حين بعث رسول الله كفروا به وليسوا بمسلمين ودينهم دين باطل،ومن اعتقد أن دينهم صحيح مساوٍ لدين الإسلام فهو كافر خارج عن الإسلام فالإيمان قبولٌ وإذعانٌ.
قَالَ: الإِيْمَانُ أَنْ تُؤمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرسله، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنُ بَالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ هذه ستّة أشياء:
أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ الإيمان بالله يتضمن أربعة أشياء:
الأول : الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى. فمن أنكر الله تعالى فليس بمؤمن، ومع ذلك لايمكن أن يوجد أحد ينكر وجود الله تعالى بقرارة نفسه، حتى فرعون الذي قال لموسى: ما رب العالمين؟ كان مقرّاً بالله، قال له مؤسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ ) (الاسراء: الآية102) لكنه جاحد،كما قال الله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً )(النمل: الآية14)
الثاني : الإيمان بانفراده بالرّبوبية، أي تؤمن بأنه وحده الرّب وأنه منفرد بالربوبية، والرب هو الخالق المالك المدبر.
فمن الذي خلق السماوات والأرض ؟ الله عزّ وجل .
ومن الذي خلق البشر ؟ الله عزّ وجل .
ومن يملك تدبير السماوات والأرض ؟ الله عزّ وجل .
الثالث : إيمان بانفراده بالألوهية، وأنه وحده الذي لا إله إلا هو لاشريك له، فمن ادعى أن مع الله إلهاً يُعبد فإنه لم يؤمن بالله، فلابد أن تؤمن بانفراده بالألوهية، وإلا فما آمنت به.
الرابع : أن تؤمن بأسماء الله وصفاته بإثبات ما أثبته سبحانه لنفسه في كتابه، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على الوجه اللائق به من غير تحريف، ولاتعطيل ولاتكييف، ولا تمثيل، فمن حرّف آيات الصفات أو أحاديث الصفات فإنه لم يحقق الإيمان بالله .
قال قومٌ:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه:5) استولى، ومعناه شرعاً ولغة: علا وارتفع على العرش، لكنه علوّ خاص، ليس العلوّ العام علىجميع المخلوقات. فهذا الذي فسّر (اسْتَوَى) بـ : استولى لم يحقق الإيمان بالله، لأنه نفى صفة أثبتها الله لنفسه، والواجب إثبات الصفات.
ومن قال: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ )(صّ: الآية75) أي بقدرتيَّ ، أو: بقوتيَّ وليس لله يد حقيقة لم يحقق الإيمان بالله، لو حقق الإيمان بالله لقال: لله عزّ وجل يد حقيقية لكن لاتماثل أيدي المخلوقين،كما قال الله عزّ وجل : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )(الشورى: الآية11) لأننا لانحدث عن الله إلاعلى حسب ما أخبرنا الله به عن نفسه، فإذا كنّا لايمكن أن نتحدث عن شخص لم نرهُ وإن كان عندنا في البلد، فكيف نتحدث عن الله تعالى بلاعلم.
وإذا قال: إن الله لايتكلم بكلام مسموع، ولكن كلامه المعنى القائم بنفسه، وما سمعه جبريل فهو مخلوق، أصوات خلقها الله عزّ وجل لتعبّر عما في نفسه، فهذا ما حقق الإيمان بالله. لأن تفسير (الكلام) بهذا المعنى يدلّ على أن الله تعالى لايتكلم حقيقة، لأنك إذا قلت: الكلام هو المعنى القائم بالنفس صار معنى الكلام هو العلم، لا أنه المسموع، وعلى هذا فقس.
وعلى هذا فجميع المبتدعة في الأسماء والصفات، المخالفين لما عليه السلف الصالح، لم يحققوا الإيمان بالله، ولا نقول إنهم غير مؤمنين، فهم مؤمنون لاشك، لكنهم لم يحققوا الإيمان بالله، والذي فاتهم من الأمور الأربعة هو الرابع: الإيمان بأسماء الله وصفاته، فلم يحققوا الإيمان به، وهم مخطئون مخالفون لطريق السلف، وطريقتهم ضلال بلاشكّ، ولكن لايحكم على صاحبه بالضلال حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة، وأصر على خطئه وضلاله، كان مبتدعاً فيما خالف فيه الحق، وإن كان سلفيّاً فيما سواه، فلا يوصف بأنه مبتدع على وجه الإطلاق، ولا بأنه سلفيّ على وجه الإطلاق ،بل يوصف بأنه سلفي فيما وافق السلف، مبتدع فيما خالفهم .
ومن مسائل الأسماء والصفات التي حصل فيها خلاف معنى حديث : أَنَّ اللهَ خَلَقَ آَدَمَ عَلَى صُوْرَتِهِ[25] وضجّوا وارتفعت أصواتهم وكثرت مناقشاتهم، كيف خلق آدم على صورته؟
فحرّفه قومٌ تحريفاً مشيناً مستكرهاً، وقالوا: معنى الحديث: خَلَقَ اللهُ آدم على صورته أي على صورة آدم - الله المستعان - هل يمكن لأفصح البشر وأنصح البشر أن يريد بالضمير ضمير المخلوق، بمعنى خلق آدم على صورته أي على صورة آدم ؟ لايمكن هذا، لأن كل مخلوق فقد خلق على صورته، وحينئذ لافضل لآدم على غيره. فهذا هراء لامعنى له، أتدرون لما قالوا هذا التأويل المستكره المشين؟
قالوا: لأنك لو قلت إنها صورة الرب عزّ وجل لمثّلت الله بخلقه، لأن صورة الشيء مطابقةله ، وهذا تمثيل .
وجوابنا على هذا أن نقول : لو أعطيت النصوص حقها لقلت خلق الله آدم على صورة الله ، لكن ليس كمثل الله شيء.
فإن قال قائل: اضربوا لنا مثلاً نقتنع به ، أن الشيء يكون على صورة الشيء وليس مماثلاً له ؟
والجواب نقول: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إِنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلَى صُوْرَةِ القَمَرِ لَيْلَةِ البَدْرِ ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلوُنَهُمْ عَلَى أَضْوَءِ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ[26] فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمال واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لامن كل وجه ، فإن قلت بالأول فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين وليس لهم أفواه، وإن قلت بالثاني؛ زال الإشكال وثبت أنه لايلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه.
فالمهم أن باب الصفات بابٌ عظيمٌ، خطره جسيم، ولايمكن أن ينفك الإنسان من الورطات والهلكات التي يقع فيها إلا باتباع السلف الصالح، أثبت ما أثبته الله تعالى لنفسه، وانْفِ مانفى الله عن نفسه، فتستريح.
هل تبحث في أمر يكون البحث فيه تعمّقاً وتنطّعاً ؟
الجواب: لا تبحث.
وقد سُئِل الإمام مالك - رحمه الله - عن قول الله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5] كيف استوى؟
فأطرق - رحمه الله - برأسه وجعل يتصبب عرقاً من ثقل ما ألقي عليه وتعظيمه الرب جل وعلا، ثم رفع رأسه وقال: (الاستواء غير مجهول) أي أنه معلوم في اللغة العربية، استوى على كذا: أي علا عليه واستقرّ، وكل ما ورد في القرآن والسنةوكلام العرب أن (استوى) إذا تعدّت بـ (على) فمعناه العلو وقوله: (والكيف غير معقول) أي معناه: أنّا لاندرك كيفية استواء الله على عرشه بعقولنا: وإنما طريق ذلك السمع. وقوله: (الإيمان به واجب) معناه : أن الإيمان باستواء الله على عرشه على الوجه اللائق واجب. (والسؤال عنه بدعة) معناه : أن السؤال عن كيفية الاستواء بدعة، لأن مثل هذا السؤال لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم أشد منا حرصاً على معرفة الله عزّ وجل ، والمجيب لو سألوه فهو أعلم منا بالله تعالى، ومع ذلك لم يقع السؤال، أفلا يسعنا ما وسعهم ؟
الجواب: بلى، فيجب على المسلم أن يسعه ما وسع السلف الصالح، فلا يسأل.
ثم قال الإمام مالك - رحمه الله- : (ما أراك) أي ما أظنك (إلامبتدعاً) تريد أن تفسد على الناس دينهم، ثم أمر به فأُخرج من المسجد، أي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يقل: والله لاأستطيع إخراجه، أخشى أن أدخل في قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ )(البقرة: الآية114) لأني أمنع هذا من دخول المسجد، لأنه لم يدخل ليذكر فيه اسم الله، بل دخل ليفسد عباد الله، ومثل هذا يمنع.
فإذا كان الذي يأكل الثوم والبصل يمنع من دخول المسجد، فكيف بمن يفسد على الناس أديانهم،أفلا يكون أحقّ بالمنع؟ بلى والله، ولكن كثيراً من الناس غافلون.
على كلّ حال هذا المقام مقام عظيم، لكني أحذركم أن تتعمّقوا في باب الأسماء والصفات، وأن تسألوا عما لاحاجة لكم به.
يقول بعض الناس: الله تعالى له أصابع، ويقول المحرفون: ليس له أصابع، والمراد بقوله: إنَّ قُلُوْبَ بَنِيْ آدَمَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ[27] كمال السيطرة والتدبير، سبحانَ الله، أأنتم أعلم أم رسول الله؟ نفوا الأصابع لظنهم أن إثباتها يستلزم التمثيل، فمثلوا أولاً وعطّلوا ثانياً، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل.
وجاء آخرون فقالوا: قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن، وأمسك المسواك بين أصابعه وقال: بين أصبعين من أصابع الرحمن. قطع الله هاتين الأصبعين. فهل يحلّ هذا ؟
الجواب: لا يحل، أولاً: هل تعلم أن أصابع الله تعالى خمسة: إبهام وسبابة ووسطى وبنصر وخنصر؟ لا تعلم .
ثانياً: هل تعلم أن كون القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن: بين الإبهام والسبابة، أو بين الإبهام والوسطى، أو بين الإبهام والبنصر، أو بين الإبهام والخنصر؟ كيف تقول على الله ما لاتعلم، أم على الله يفترون، فمثل هذا يستحق أن يؤدّب لأنه قال على الله ما لا يعلم.
فقالوا: أليس النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: وَكَانَ اللهُ سَمِيعَاً بَصِيرَا وضع إبهامه وسبابته على العين والأذن[28]
نقول: بلى، لكن أنت لست رسولاً حتى تفعل هذا، ثم المقصود من وضع الرسول صلى الله عليه وسلم أصبعيه تحقيق السمع والبصر فقط.
وأكرر أن باب الصفات باب عظيم، احذر أن تزل، فتحت رجلك هوّة، فالأمر صعب جداً.
يقول آخرون في قول الله تعالى: (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )(الزمر: الآية67) فيشير بيده قابضاً لها على شيء - أعوذ بالله - والآخرون يقولون: قبضته أي تحت تصرفه، والفرق بينهما عظيم.
فعلى كل حال، أكرر:احذروا باب الصفات أن تخوضوا في شيءٍ لم يتكلم فيه السلف الصالح.
يقول بعض العلماء: من لم يسعه ما وسع الصحابة والتابعين فلا وسّع الله عليه.
ولنا لقاء بإذن الله الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:30 | |
| قوله: وَمَلائِكَتِهِ بدأ بالملائكة قبل الرسل والكتب لأنهم عالم غيبي، أما الرسل والكتب فعالم محسوس، فالملائكة لا يظهرون بالحس إلا بإذن الله عزّ وجل ، وقد خلق الله الملائكة من نورٍ،كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم لايحتاجون إلى أكل وشرب، ولهذا قيل إنهم صمدٌ أي ليس لهم أجواف، فلا يحتاجون إلى أكل ولا شرب، فنؤمن أن هناك عالماً غيبياً هم الملائكة.
وهم أصناف، ووظائفهم أيضاً أصناف حسب حكمة الله عزّ وجل كالبشر أصناف ووظائفهم أصناف.
والإيمان بالملائكة يتضمّن:
أولاً : الإيمان بأسماء من علمنا أسماءهم،أن نؤمن بأن هناك ملَكاً اسمه كذا مثل جبريل.
ثانياً : أن نؤمن بما لهم من أعمال، مثلاً:
جبريل: موكل بالوحي، ينزل به من عند الله إلى رسله.
وميكائيل: موكل بالقطر أي المطر، والنبات أي نبات الأرض.
وإسرافيل: موكل بالنفخ في الصور .
هؤلاء الثلاثة كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكرهم عندما يستفتح صلاة الليل فيقول: اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيْلَ وَمِيْكَائِيْلَ وَإِسْرَافِيْلَ [29] والحكمة من هذا : أن كل واحد منهم موكل بحياة: فجبريل موكل بالوحي وهو حياة القلوب كما قال عزّ وجل : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا)(الشورى: الآية52) وميكائيل موكل بالقطر والنبات وهو حياة الأرض، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور وهو حياة الناس الحياة الأبدية.
والمناسبة ظاهرة، لأنك إذا قمت من النوم فقد بعثت من موت كما قال تعالى: [وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ) (الأنعام: الآية60)] وقال عزّ وجل: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى)(الزمر: الآية42)
إذا كان القيام من الليل بعثاً وهؤلاء الملائكة الثلاثة الكرام كلهم موكلون بحياة،صارت المناسبة واضحة.
كذلك يجب الإيمان بما لبعض الملائكة من أعمال خاصة، فمثلاً: هناك ملائكة وظائفهم أن يكتبوا أعمال العباد، قال الله عزّ وجل: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ*مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق:16-18] فهؤلاء موكلون بكتابة أعمال بني آدم،وقال الله عزّ وجل أيضاً في آية أخرى:( كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ*وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كراما كاتبين) [الأنفطار:9-11] يكتبون كل قول يقوله الإنسان، وظاهر الآية الكريمة أنهم يكتبون ما للإنسان وما عليه وما ليس له ولا عليه، وجه كون هذا هو الظاهر: أن قوله عزّ وجل مِنْ قَوْلٍ نكرة في سياق النفي مؤكّدة بـ: (من) فتفيد العموم، لكن ماليس له ولا عليه لايحاسب عليه وإنما يقال إنه فاته خير كثير.
وذُكر أن رجلاً دخل على الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله- فقيه المحدّثين ومحدث الفقهاء وإمام أهل السنة، دخل عليه وهو يئن من الوجع، فقال له: يا أبا عبد الله تئنّ وقد قال طاوس: إن الملك يكتب حتى أنين المريض، فأمسك الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - عن الأنين، وهذا من تعظيم آثار السلف عند السلف.
ومن الملائكة من هم موكلون بالسياحة في الأرض يلتمسون حِلَق الذّكر والعلم فإذا وجدوها جلسوا.
ومنهم ملائكة موكلون بحفظ بني آدم.
ومنهم ملائكة موكلون بقبض روح بني آدم.
ومنهم ملائكة موكلون بسؤال الميت في قبره.
ومنهم ملائكة موكلون بتلقّي المؤمنين يوم القيامة( وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ )(الانبياء: الآية103)
ومنهم ملائكة موكلون بتحية أهل الجنة كما قال تعالى في كتابه: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَاب ٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ) (الرعد:23-24)
ومنهم ملائكة يعبدون الله عزّ وجل ليلاً ونهاراً، كما قال سبحانه وتعالى: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20) قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أَطَّتِ السَّماءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ) والأطيط : هو صرير الرحل على البعير إذا كان الحمل ثقيلاً،فيقول صلى الله عليه وسلم : ( أَطَّتِ السَّماءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَامِنْ مَوْضِعِ أَرْبَعِ أَصَابِع مِنْهَا إِلاَّ وَفِيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ لِلَّهِ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِد) [30]
وَكُتُبِهِ جمع كتاب بمعنى: مكتوب والمراد بها الكتب التي أنزلها الله عزّ وجل على رسله لأنه ما من رسول إلا أنزل الله عليه كتاباً كما قال الله عزّ وجل : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النبيينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ ) (البقرة:213)
وقال عزّ وجل: (وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا) أي إبراهيم ونوح: (النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب) [الحديد:26] واعلم أن جميع الكتب السابقة منسوخة بما له هيمنة عليها وهو القرآن، قال الله عزّ وجل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(المائدة: الآية48) كل الكتب منسوخة بالقرآن،فلا يُعمل بها شرعاً.
واختلف العلماء - رحمهم الله - فيما ثبت في شرائع من قبلنا، هل نعمل به إلا أن يرد شرعنا بخلافه، أو لا نعمل به؟
من العلماء من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا مالم يرد شرعنا بخلافه، وذلك أن ماسبق من الشرائع:
.1إما أن توافقه شريعتنا
.2 وإما أن تخالفه شريعتنا
.3 وإما أن لاندري توافقه شريعتنا أم لا فيكون مسكوتاً عنه
فما وافقته شريعتنا فهو حق ونتبعه، وهذا بالإجماع، واتباعنا إياه لا لأجل وروده في الكتاب السابق ولكن لشريعتنا.
- وما خالف شريعتنا فلا نعمل به بالاتفاق، لأنه منسوخ، ومثاله لايحرم على الناس أكل الإبل في وقتنا مع أنها على بني إسرائيل - اليهود خاصة - كانت محرمة.
- وما لم يرد شرعنا بخلافه ولا وفاقه فهذا محل الخلاف: منهم من قال: إنه شرع لنا. ومنهم من قال: ليس بشرعٍ لنا، ولكل دليل، وتفصيل ذلك في أصول الفقه.
والإيمان بالكتب يتضمّن أربعة أمور:
أولاً : أن نؤمن بأن الله تعالى أنزل على الرسل كتباً، وأنها من عند الله ولكن لانؤمن بأن الكتب الموجودة في أيدي هذه الأمم هي الكتب التي من عند الله لأنها محرّفة ومبدلة، لكن أصل الكتاب المنزل على الرسول نؤمن بأنه حق من عند الله.
ثانياً : أن نؤمن بصحة ما فيها من أخبار كأخبار القرآن وأخبار ما لم يبدل أو يحرّف من الكتب السابقة.
ثالثاً : أن نؤمن بما فيها من أحكام إذا لم تخالف الشريعة على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا - وهو ا لحق - إذا لم يرد شرعنا بخلافه.
رابعاً : أن نؤمن بما علمنا من أسمائها، مثل: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى.
فلو قال رجل: أنا لا أومن بأن هناك كتاباً يسمى التوراة، فإنه كافر، لأن الإيمان بالله يتضمن الإيمان بالكتب.
وَرسُلِهِ أي أن تؤمن برسل الله عزّ وجل ، والمراد بالرسل من البشر، وليعلم بأنه يعبر برسول ويعبّر بنبي، فهل معناهما واحد؟
الجواب: أما في القرآن فكل من ذكر من الأنبياء فهو الرسول ، فكلما وجدت في القرآن من نبي فهو رسول، لكن معنى النبي والرسول يختلف، والصواب فيه: أن النبي هو من أوحي إليه بشرع وأمر بالعمل به ولكن لم يؤمر بتبليغه، فهو نبي بمعنى مُخْبَر، ولكن لم يؤمر بالتبليغ. مثاله: آدم عليه السلام أبو البشر نبي مكلف لكنه ليس برسول، لأن أول الرسل نوح، أما آدم فنبي كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
فإذا قال قائل: لماذا لم يرسل؟
فالجواب: لأن الناس في ذلك الوقت كانوا أمة واحدة، قليلون وليس بينهم اختلاف، لم تتسع الدنيا ولم ينتشر البشر فكانوا متّفقين فكفاهم أن يروا أباهم على عبادة ويتبعوه، ثم لما حصل الخلاف وانتشر الناس احتيج إلى الرسل، كما قال الله عزّ وجل : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النبيينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(البقرة: الآية213)
فإذا قال قائل: ما الفائدة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد آدم عليه السلام إذا كان لم يؤمر بالتبليغ ؟
قلنا الفائدة: تذكير الناس بالشريعة التي نسوها، وفي هذا لا يكون الإعراض من الناس تاماً فلا يحتاجون إلى رسول ،ويكفي النبي صلى الله عليه وسلم الذي يذكرهم بالشريعة، قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا )(المائدة: الآية44) هذه هي الفائدة من النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن هذا الإيراد إيراد قوي وهو ما الفائدة من النبوة بلا رسالة؟ والجواب ماسبق. ولهذا جاء في حديث لكنه ضعيف: عُلَمَاءُ أُمَّتِيْ كَأَنْبِيَاءِ بَنِيْ إِسْرَائِيْل[31] معناه صحيح لكنه ضعيف من حيث إنه مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
- وأوّل الرسل نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، واعلم بأنك ستجد في بعض كتب التاريخ أن إدريس عليه الصلاة والسلام كان قبل نوح عليه السلام، وأن هناك بعضاً آخرين مثل شيث، كل هذا كذبٌ وليس بصحيح.
فإدريس بعد نوح قطعاً، وقد قال بعض العلماء: إن إدريس من الرسل في بني إسرائيل، لأنه دائماً يذكر في سياق قصصهم، لكن نعلم علم اليقين أنه ليس قبل نوح، والدليل قول الله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنبيينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (النساء: الآية163) وقال الله عزّ وجل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (الحديد: الآية26) فأرسلهم الله وهم القمة، وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب، فمن زعم أن إدريس قبل نوح فقد كذب القرآن وعليه أن يتوب إلى الله من هذا الاعتقاد.
والرسل عليهم الصلاة والسلام هم أعلى طبقات البشر الذين أنعم الله عليهم، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرسول فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النبيينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ) (النساء: الآية69) هذه أربعة أصناف.
النبيون يدخل فيهم الرسل وهم أفضل من الأنبياء، ثم الرسل أفضلهم خمسة هم أُوُلو العزم، ذكروا في القرآن في موضعين في سورة الأحزاب وفي سورة الشورى: ففي سورة الأحزاب قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى) (الأحزاب: الآية7) وفي سورة الشورى قال الله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّين)(الشورى: الآية13) فسبحان الله ، هذه وصية من الله للأولين والآخرين : (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا ) (الشورى: الآية13) فهي وصية بإقامة الدين وعدم التفرّق في الدين.
وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ [32] ولما التقى بهم في الإسراء أَمَّهم في الصلاة، فإبراهيم إمام الحنفاء صلى وراء محمد صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أنه لايقدم في الإمامة إلا الأفضل،فالنبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل أولي العزم.
والثاني: إبراهيم الخليل عليه السلام يلي مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)(النساء: الآية125) والذي ابتلاه الله تعالى ببلية لايصبر عليها إلا أولو العزم.
وقصّة ابتلاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه أتاه ابناً على كبر، ومعلوم أنه إذا أتى الفريد الوحيد ابنٌ على كبر، سيكون في قلب أبيه في غاية المحبة للبشر، لما بلغ معه السعي فلم يكن طفلاً لايهتم به، ولم يكن كبيراً انفرد بنفسه بل بلغ السعي، أي بدأ يمشي معه، تعلق قلبه به تماماً فامتحنه الله تعالى، بأن رأى في المنام أنه يذبح ابنه، ورؤيا الأنبياء وحي، فقال له: يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، فلم يخيره لكن أراد أن يمتحنه، فجاء الابن في غاية ما يكون من الامتثال والانقياد فقال: يا أبتِ افعل ما تؤمر، لم يقل يا أبت اذبحني، بل قال: افعل ما تؤمر حتى ينبّهه أنه يفعل هذا امتثالاً لأمر الله عزّ وجل ، افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، فلم يجزم، بل قال: إن شاء الله، كما قال الله تعالى: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً*إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [الكهف:23-24] فاتفق الأب والابن على الاستجابة لأمر الله، فلما أسلما أي استسلما لأمر الله، وتلّه أي أبوهُ للجبين أي على الأرض والجبين: الجبهة، وإنما تلّه على الجبين دون أن يذبحه مستلقياً لئلا يرى وجه ابنه والسكين تلوح على رقبته، فيخفف هو عن نفسه ويخفف أيضاً على الابن، فلما تلّه للجبين جاء الفرج من الله عزّ وجل ، فرّج الله تعالى عنه: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات:104-105].
هذه المحبة لهذا الابن وهذا الابتلاء وهذا الامتثال التام يدل على أن محبة الله في قلب إبراهيم عليه السلام أعظم من محبة الولد، فكان إبراهيم خليل الله عزّ وجل ، أعطاه الله الخلة. والخلّة: هي أعظم أنواع المحبة، والمحبة أنواعها عشرٌ، وقيل سبع، لكن أعلاها الخلّة، وفي هذا يقول الشاعر لمعشوقته:
قدْ تخلَّلتِ مسلك الرّوحِ منّي وبذا سُمِّيَ الخليلُ خَليلا
لأن محبته تخللت مسلك الروح، العروق والعظام والمخ وكل شيء.
ففي قوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)(النساء: الآية125) دليل على أن إبراهيم بالنسبة لله عزّ وجل ، أعلى مايكون من المحبوب، ففيه إثبات المحبة.
وقال المحرّفون الذين يقولون: إن الله لايحب: إن قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) مأخوذ من الخِلّة بالكسر، يعني الافتقار ومعنى (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) أي فقيراً إليه.
وهذا من التّحريف، فكل إنسان على قولهم يكون خليلاً لله، لأن كل إنسان مفتقر إلى الله عزّ وجل .
ولكن نقول:الخليل هو الذي بلغ غاية المحبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللهَ اِتَّخَذَنِيْ خَلِيْلاً كَمَا اِتَّخَذَ إِبْرَاهِيْمَ خَلِيْلا، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذَاً مِنْ أُمَّتِيْ خَلِيْلاً لاَتَّخّذْتُ أَبَابَكْرخليلاً [33] .
وهناك كلمة شائعة عند الناس: يقولون: إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله وموسى كليم الله، ولاشك أن محمداً صلى الله عليه وسلم حبيب الله فهو حابّ الله ومحبوب لله ولكن هناك وصف أعلى من ذلك وهو خليل الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم خليل الله. والذين يقولون محمد حبيب الله قد هضموا حق الرسول صلى الله عليه وسلم،لأن المحبة أقل من الخلة، ولذلك نقول لا نعلم من البشر خليلاً لله إلا اثنان: إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لكن المحبة كثيرٌ كما قال الله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(البقرة: الآية195) و: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً)(الصف: الآية4) وغير ذلك من الآيات.
وقوله: واليوم الآخِرِ اليوم الآخر، هو يوم القيامة، وسمي آخراً لأنه آخر مراحل بني آدم وغيرهم أيضاً، فالإنسان له أربع دور، في بطن أمه، وفي الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة وهو آخرها.
- الإيمان باليوم الآخر يتضمّن:
أولاً: الإيمان بوقوعه، وأن الله يبعث من في القبور، وهو إحياؤهم حين ينفخ في الصور، ويقوم الناس لرب العالمين، قال تعالى: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ) (المؤمنون:16) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ حُفَاةً غُرْلاً[34] ، وأنه واقع لامحالة، لأن الله تعالى أخبر به في كتابه وكذلك في السنة، وكثيراً مايقرن الله تعالى بين الإيمان به وبين الإيمان باليوم الآخر،لأن من لم يؤمن باليوم الآخر لايعمل، إذ إنه يرى أن لاحساب.
ثانياً: الإيمان بكل ماذكره الله في كتابه وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون في ذلك اليوم الآخر، من كون الناس يحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً، أي ليس معهم مال، وهذا كقوله تعالى: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) (الانبياء: الآية104) .
ثالثاً: الإيمان بما ذكر في اليوم الآخر من الحوض والشفاعة والصراط والجنة والنار فالجنة دار النعيم، والنار دار العذاب الشديد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في العقيدة الواسطية: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم يكون بعد الموت مثل الفتنة في القبر فإن الناس يفتنون في قبورهم ويسألون عن ثلاثة أشياء: من ربك ؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟
رابعاً: الإيمان بنعيم القبر وعذابه، لأن ذلك ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف.
وهنا ننبّه على ما نسمعه من قول بعض الناس أو نقرأه في بعض الصحف إذا مات إنسان قالوا: انتقل إلى مثواه الأخير.
وهذا غلط عظيم، ولولا أننا نعلم مراد قائله لقلنا: إنه ينكر البعث، لأنه إذا كان القبر مثواه الأخير،فهذا يتضمن إنكار البعث، فالمسألة خطيرة لكن بعض الناس إمّعة، إذا قال الناس قولاً أخذ به وهو لايتأمل في معناه.
وَتُؤْمِنُ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرّهِ وهنا أعاد صلى الله عليه وسلم الفعل: (تؤمن) لأهمية الإيمان بالقدر، لأن الإيمان بالقدر مهم جداً وخطير جداً.
والإيمان بالقدر يتضمّن أربعة أمور:-
الأول : أن تؤمن بعلم الله المحيط بكل شيء جملة وتفصيلاً.
دليل ذلك: عموم الأدلة مثل قول الله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة: الآية282) وخصوص العلم بالغيب، وقد قال موسى عليه الصلاة والسلام: ( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى)(طـه: الآية52) أي لايجهل ولاينسى ما علم.
وقد ذكر الله عزّ وجل العلم في آيات كثيرة جملة وتفصيلاً:
قال الله عزّ وجل في الجملة: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:282]، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (الطلاق: الآية12) أي أخبرنا كم بهذا : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(الطلاق: الآية12) هذا مجمل.
أما التفصيل فقال الله تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا)(الأنعام: الآية59) كلمة ما اسم موصول، وكل اسم موصول فهو مفيد للعموم، فكل شيء في البرّ الله سبحانه وتعالى يعلمه، وكذلك كل شيء في البحر فالله سبحانه وتعالى يعلمه، وقوله تعالى: (وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ) أي ورقة في أي شجرة إلا يعلمها: يعلم متى سقطت، وأين سقطت، وكيف سقطت: (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(الأنعام: الآية59) أي حبة، سواء كانت كبيرة، أو صغيرة في ظلمات الأرض إلا يعلمها الله عزّ وجل ، فإذا قدرنا أن حبة بر غاصت في قاع البحر، ففوقها طين، وفوق الطين ماء، وكان ذلك ليلاً أي في ظلمة الليل، وكانت السماء ممطرة، والغيوم متلبدة، فهذا ظلمة المطر وظلمة الغيوم وكان الجو مغبرّاً، هذا أيضاً ظلمة، فيعلم الله عزّ وجل الحبة في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولايابسٍ إلا في كتاب مبين
وإذا حقق العبد الإيمان بعلم الله، وأنه جلّ وعلا محيطٌ بكل شيء أوجب له الخوف من الله، وخشيته، والرغبة فيما عنده جل وعلا ، لأن كل حركة تقوم بها فالله يعلمها.
ثانياً: الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ، مقادير كل شيء إلى يوم القيامة، قال الله عزّ وجل: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) [يس:12] أي في كتاب، وقال عزّ وجل : )وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) [الأنبياء:105] وهو اللوح المحفوظ : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)(الأنبياء: الآية105) ، والآيات في هذا متعددة.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لما خلق القلم قال له: اِكْتُبْ، قَالَ رَبِّ: وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكتُبْ مَاهُوَ كَائِنٌ، فَجَرَى فِيْ تِلْكَ السَّاعةِ بِمَاهُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ [35] فأمر الله القلم أن يكتب؛ ولكن كيف يوجه الخطاب إلى الجماد؟
الجواب عن ذلك: نعم، من الله يصح لأنه هو الذي ينطق الجماد ثم إن الجماد، بالنسبة إلى الله عاقل يصحّ أن يوجه إليه الخطاب، قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصلت:11) فوجّه الخطاب إليهما، وذكر جوابهما وكان الجواب لجمع العقلاء (طائعين) دون طائعات. والحاصل أن الله أمر القلم أن يكتب، وقد امتثل القلم، لكنه أشكل عليه ماذا يكتب، فقال: ربي وماذا أكتب ؟
قال: اكتب ماهو كائن إلى يوم القيامة، فجرى في تلك اللحظة بما هو كائن إلى يوم القيامة - سبحان الله - من يحصي الحوادث والوقائع إلا الله عزّ وجل ، وهذا اللوح المحفوظ مشتمل عليها.
- واللوح المحفوظ لانعرف ماهيته، من أيّ شيء؛ أمن الخشب، أم من حديد، ولانعرف حجم هذا اللوح ولاسعته، فالله أعلم بذلك والواجب أن نؤمن بأن هناك لوحاً كتب الله فيه مقادير كل شيء، وليس لنا الحق أن نبحث وراء ذلك.
وقد ظهر في الآونة الأخيرة ما يسمّى بأقراص الليزر يتسع القرص الصغير إلى كتب كثيرة، وهو من صنع الآدمي، وأقول هذا تقريباً لا تشبيهاً،لأن اللوح المحفوظ أعظم من أن نحيط به.
ثالثاً: أن تؤمن بأن كل ما حدث في الكون فهو بمشيئة الله تعالى،فلا يخرج شيء عن مشيئته أبداً . ولهذا أجمع المسلمون على هذه الكلمة: ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فأي شيء يحدث فهو بمشيئة الله.
وهذا عام، لما يفعله عزّ وجل بنفسه وما يفعله العباد،فكله بمشيئة الله، ودليل ذلك قول الله عزّ وجل : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)(البقرة: الآية253) وقال عزّ وجل: (وَلَوْ شَاءَ ربك مَا فَعَلُوهُ) [الأنعام:112] وقال: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ) [الأنعام:137] وقال عزّ وجل: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ*وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29،28] فكل ماحدث في الكون فهو بمشيئة الله، وإذا آمن الإنسان بهذا سلم من عمل الشيطان، فإذا فعل فعلاً وحصل خلاف المقصود، قال ليتني لم أفعل، فهذا من عمل الشيطان، لأن الذي فعلته قد شاءه الله عزّ وجل ولابد أن يكون، لكن إن كان ذنباً فعليك بالتوبة والاستغفار.
رابعاً: الخلق، ومعناه: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء، فنؤمن بعموم خلق الله تعالى لكل شيء، قال تعالىوَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)(الفرقان: الآية2) فكل شيء مخلوق لله: السموات، والأرضون، والبحار، والأنهار، والكواكب، والشمس، والقمر، الإنسان، الكل مخلوق لله عزّ وجل وحركات الإنسان مخلوقة لله،لأن الله تعالى خلق الإنسان وأفعاله، وإذا كان هو مخلوقاً فصفاته وأفعاله مخلوقة ولا شك، فأفعال العباد مخلوقة لرب العباد عزّ وجل ، وإن كانت باختيار العباد وإرادتهم لكنها مخلوقة لله، وذلك لأن أفعال العباد ناشئةعن إرادة جازمة وقدرة تامة، وخالق الإرادة والقدرة هو الله سبحانه وتعالى.
وهل صفات الله مخلوقة ؟
الجواب: لا، لأن صفاته سبحانه وتعالى كذاته كما أن صفات الإنسان كذات الإنسان مخلوقة. وسنذكر في الفوائد إن شاء الله أن الناس انقسِموا في القدر إلى ثلاثة أقسام: مُفَرِّط، ومُفْرِط، ومقتصد، أي مستقيم. الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:31 | |
| قَالَ: صَدَقْتَ القائل جبريل عليه السلام
ثم قال: أخْبِرْني عَنِ الإِحْسَانِ الإحسان مصدر أحسن يحسن، وهو بذل الخير والإحسان في حق الخالق: بأن تبني عبادتك على الإخلاص لله تعالى والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلما كنت أخلص وأتبع كنت أحسن. وأما الإحسان للخلق: فهو بذل الخير لهم من مال أوجاه أو غير ذلك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الإحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وعبادة الله لا تتحقق إلابأمرين وهما: الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي عبادة الإنسان ربه سبحانه كأنه يراه. عبادة طلب وشوق وعبادة الطلب والشوق يجد الإنسان من نفسه حاثاً عليها، لأنه يطلب هذا الذي يحبه، فهو يعبده كأنه يراه، فيقصده وينيب إليه ويتقرّب إليه سبحانه وتعالى.
فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ أي: اعبده على وجه الخوف ولاتخالفه، لأنك إن خالفته فإنه يراك فتعبده عبادة خائف منه، هارب من عذابه وعقابه، وهذه الدرجة عند أهل العبادة أدنى من الدرجة الأولى.
فصار للإحسان مرتبتان: مرتبة الطلب، ومرتبة الهرب.
مرتبة الطلب: أن تعبد الله كأنك تراه.
ومرتبة الهرب: أن تعبد الله وهو يراك عزّ وجل فاحذره، كما قال عزّ وجل: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ )(آل عمران: الآية30)، وبهذا نعرف أن الجملتين متباينتان والأكمل الأول، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الثاني في مرتبة ثانية متأخرة.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ لم يُعِد قوله صدقت اكتفاءً بالأولى.
والساعة هي: قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، يعني البعث، وسميت ساعة لأنها داهية عظيمة، قال الله عزّ وجل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (الحج:1). فقال النبي صلى الله عليه وسلم مَا المَسْؤُوْلُ عَنْهَا يعني نفسه صلى الله عليه وسلم بأعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ يعني جبريل عليه السلام، والمعنى: إذا كنت تجهلها فأنا أجهلها ولا أستطيع أن أخبرك به، لأن علم الساعة مما اختص الله به عزّ وجل ، قال الله تعالى: (يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) (الأحزاب:63) ، وقال عزّ وجل: (يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً )(الأعراف: الآية187) ولهذا يجب علينا أن نكذب كل من حدد عمر الدنيا في المستقبل، ومن قال به أو صدق به فهو كافر.
وما نسمع عن بعض أهل الشعوذة أن عمر الدنيا كذا وكذا قياساً على ما مضى منها فإنه يجب علينا أن نقول بألسنتنا وقلوبنا كذبتم، ومن صدّق بذلك فهو كافر، لأنه إذا كان أعلم الرسل البشرية وأعظم الرسل الملكية كلاهما لا يعرفان متى تكون فمن دونهما من باب أولى بلا شك.
ولَمَا قال ما السؤول عنها بأعلم من السائل، ثم قال: أخْبِرْنِي عَنِ أَمَارَاتِهَا أي علامات قربها، لأن الأمارة بمعنى العلامة، والمراد أمارات قربها وهو ما يعرف بالأشراط،قال الله عزّ وجل: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا )(محمد: الآية18) وأشراط الساعة قسّمها العلماء إلى ثلاثة أقسام:
أشراط مضت وانتهت
أشراط لم تزل تتجدد وهي الوسطى
أشراط كبرى تكون عند قرب قيام الساعة
ومن علامات الساعة ماذكره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بقوله:
أَنْ تَلِدَ الأمَةُ رَبّتَهَا وفي لفظ: ربَّهَا والمعنى: أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ أي الرقيقة المملوكة رَبَّهَا أي سيدها، أو: ربَّتَهَا هل المراد العين أو الجنس؟
والجواب: اختلف في هذا العلماء. فمنهم من قال: المراد أن تلد الأمة ربها،يعني أن تلد الأمة من يكون سيداً لغيرها لا لها، فيكون المراد بالأمة: الأمة بالجنس.
وقيل المعنى:إن الأمة بالعين تلد سيدها أو سيدتها،بحيث يكون الملك قد أولد أمته، ومعنى أولدها أي أنجب منها، فيكون هذا الولد الذي أنجبته سيداً لها: إما لأن أباه سيدها، وإما لأنه سوف يخلف أباه فيكون سيداً لها.
ولكن المعنى الأول أقوى، أن الإماء يلدن -من يكونوا أسياداً ومالكين، فهي كانت مملوكة في الأول، وتلد من يكونوا أسياداً مالكين. وهو كناية عن تغير الحال بسرعة، ويدل لهذا ماذكره بعد حيث قال:
وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ الحفاة: يعني ليس لهم نعال، والعراة: أي ليس لهم ثياب تكسوهم وتكفيهم، العالة: أي ليس عندهم ما يأكلون من النفقة أو السكنى أو ما أشبه ذلك، عالة أي فقراء.
يَتَطَاوَلُوْنَ في البُنْيَانِ أي يكونون أغنياء حتى يتطاولون في البنيان أيهم أطول. وهل المراد بالتطاول ارتفاعاً، أو جمالاً، أو كلاهما؟
الجواب: كلاهما، أي يتطاولون في البنيان أيهم أعلى، ويتطاولون في البنيان أيهم أحسن، وهم في الأول فقراء لا يجدون شيئاً، لكن تغير الحال بسرعة مما يدل على قرب الساعة.
وهنا مسألة: هل وجد التطاول في البنيان أم لا؟
والجواب: الله أعلم فإنه قد يوجد ماهو أعظم مما في هذا الزمان،لكن كل أناس وكل جيل يحدث فيه من التطاول والتعالي في البنيان،وكل زمن يقول أهله: هذا من أشراط الساعة، والله أعلم، لكن هذه علامة واضحة.
ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَليّاً يعني بقيت ملياً أي مدة طويلة كما في قوله تعالى: (وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً)(مريم: الآية46) أي مدة طويلة، قيل ثلاثة أيام، وقيل أكثر، وقيل: أقل ولكن المعروف أن الملي يعني الزمن الطويل.
ثُمَّ قَالَ: يَاعُمَرُ والقائل النبي صلى الله عليه وسلم أتَدْرِيْ من السَّائِل؟ قُلتُ: اللهُ وَرَسُوْله أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ ولعل النبي صلى الله عليه وسلم وجده فيما بعد وسأله: أتدري من السائل؟ أي أتعلم من هو؟ فَقَالَ عُمَرُ: اللهُ وَرَسُوْلهُ أَعْلَمُ وهذا يدل على أن عمر رضي الله عنه لاعلم له من هذا السائل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فَإِنَّهُ جِبْرِيْلُ الإشارة هنا إلى شيء معلوم بالذهن، أي هذا جبريل أتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكَمُ لكنه جاء بهذه الصيغة أي صيغة السؤال والجواب لأنه أمكن في النفس وأقوى في التأثير.
من فوائد هذا الحديث:
هذا الحديث فيه فوائد كثيرة، فلو أراد الإنسان أن يستنبط مافيه من الفوائد منطوقاً ومفهوماً وإشارة لكتب مجلداً، لكن نشير إشارة قليلة إلى ما يحضرنا إن شاء الله تعالى، فمنها:
.1بيان حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يجلس مع أصحابه ويجلسون إليه،وليس ينفرد ويرى نفسه فوقهم، بل إن الجارية تأخذ بيده حتى توصله إلى بيتها ليحلب لها الشاة من تواضعه صلى الله عليه وسلم [36]
واعلم أنك كلما تواضعت لله ازددت بذلك رفعة، لأن من تواضع لله رفعه الله عزّ وجل .
.2جواز جلوس الأصحاب إلى شيخهم ومن يفوقهم،لكن هذا بشرط:إذا لم يكن فيه إضاعة وقت على الشيخ ومن يفوقه علماً. لأن بعض الناس يأتي إلى من يحافظ على وقته ويستغله في العلم، فيجلس عنده ويطيل الحديث، فالمحافظ على وقته،يتململ ويوري مثلاً بقصر الليل أو ما أشبه ذلك، ولكن الآخر لشدة محبته له والتحدث إليه يبقى.
.3إن الملائكة عليهم السلام يمكن أن يتشكلوا بأشكال غير أشكال الملائكة، لأن جبريل أتى بصورة هذا الرجل كما جاء في الحديث.
فإن قال قائل:وهل هذا إليهم، أو إلى الله عزّ وجل ؟
فالجواب: هذا إلى الله عزّ وجل ، بمعنى: أنه لايستطيع الملك أن يتزيَّى بزيّ الغير إلا بإذن الله عزّ وجل .
.4الأدب مع المعلم كما فعل جبريل عليه السلام، حيث جلس أمام النبي صلى الله عليه وسلم جلسة المتأدب ليأخذ منه.
.5جواز التورية لقوله: يامُحَمَّد) وهذه العبارة عبارة الأعراب، فيوري بها كأنه أعرابي،وإلا فأهل المدن المتخلقون بالأخلاق الفاضلة لاينادون الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذا.
.6فضيلة الإسلام،وأنه ينبغي أن يكون أول ما يسأل عنه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الرسل للدعوة إلى الله أمرهم أن يبدؤوا قبل كل شيء بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
.7إن أركان الإسلام هي هذه الخمسة،ويؤيده حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْس[37] وسيأتي شرحه.
.8فضل الصلاة وأنها مقدمة على غيرها بعد الشهادتين.
.9الحث على إقامة الصلاة، وفعلها قويمة مستقيمة،وأنها ركن من أركان الإسلام.
.10إن إيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من أركان الإسلام، وكذلك بقية الأركان.
ولو قائل قال: إذا ترك الإنسان واحداً من هذه الأركان هل يكفر أم لا؟
فالجواب: أن نقول: إذا لم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله فهوكافر بالإجماع، ولا خلاف في هذا. وأما إذا ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج أو واحداً منها ففي ذلك خلاف، فعن الإمام أحمد - رحمه الله - رواية: أن من ترك واحداً منها فهو كافر، يعني: من لم يصلِّ فهو كافر، ومن لم يزكِّ فهو كافر، ومن لم يصم فهو كافر، ومن لم يحج فهو كافر.
لكن هذه الرواية من حيث الدليل ضعيفة.
والصواب: أن هذه الأربعة لا يكفر تاركها إلا الصلاة، لقول عبد الله بن شقيق - رحمه الله - كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لايرون شيئاً من الأعمال تركه كفرٌ إلا الصلاة ولذلك أدلة معروفة[38].
وكذا لو أنكر وجوبها وهو يفعلها فإنه يكفر ،لأن وجوبها أمرٌ معلوم بالضرورة من دين الإسلام.
وإذا تركها عمداً فهل يقضيها أو لا ؟
نقول: الموقت لا يقضى، فلو ترك الصلاة حتى خرج وقتها بلا عذر قلنا لا تقضها، لأنه لو قضاها لم تنفعه لقول الله تعالى: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(البقرة: الآية229) والظالم لا يمكن أن يقبل منه، ومن أخرج الصلاة عن وقتها بلاعذر فهو ظالم.ولقول النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَليْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ [39] .
وكذلك يقال في الصوم: فلو ترك الإنسان صوم يوم عمداً بلا عذر ثم ندم بعد أن دخل شوال وأراد أن يقضيه، فإننا نقول له: لا تقضه، لأنك لو قضيته لم ينفعك، لكونك تعديت حدود الله، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَليْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ
وعلى من ترك الصلاة بلا عذر حتى خرج الوقت، أوترك الصوم بلا عذر حتى خرج الوقت أن يكثر من الطاعات والاستغفار والعمل الصالح والتوبة إلى الله توبة نصوحاً.
أما الزكاة:إذا تركها الإنسان ثم تاب فإنه يزكي، نقول: زكِّ لأنه ليس للزكاة وقت محدد يقال فيه لاتزكي إلا في الشهر الفلاني.
ومن مات وهو لم يزكِّ تهاوناً، فهل تخرج الزكاة من ماله، أم لا؟
والجواب: الأحوط -والله أعلم- أن الزكاة تخرج، لأنه يتعلق بها حق أهل الزكاة فلا تسقط، لكن لاتبرأ ذمته، لأن الرجل مات علىعدم الزكاة.
والحج كذلك، لوتركه الإنسان القادر المستطيع تفريطاً حتى مات، فإنه لايحج عنه، لأنه لايريد الحج فكيف تُحج عنه وهو لايريد الحج.
وهنا مسألة: هل يجب على ورثته أن يخرجوا الحج عنه من تركته؟
والجواب: لا، لأنه لاينفعه ولم يتعلق به حق الغير كالزكاة، قال ابن القيم في تهذيب السنن: هذا هو الذي ندين الله به أوكلمة نحوها، وهو الذي تدل عليه الأدلة.
فيجب على الإنسان أن يتقي الله عزّ وجل لأنه إذا مات ولم يحج مع قدرته على الحج فإنه لوحُجَّ عنه ألف مرة لم تبرأ ذمته.
.11 الانتقال من الأدنى إلى الأعلى، فالإسلام بالنسبة للإيمان أدنى، لأن كل إنسان يمكن أن يسلم ظاهراً،كما قال الله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) (الحجرات: الآية14) لكن الإيمان - اللهم حقق إيماننا- ليس بالأمر الهين فمحله القلب والاتصاف به صعب.
.12 أن الإسلام غير الإيمان،لأن جبريل عليه السلام قال: أخبرني عن الإسلام وقال: أخبرني عن الإيمان وهذا يدل على التغاير.
وهذه المسالة نقول فيها ما قال السلف:-
إن ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإن ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، فقوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة: الآية3) يشمل الإيمان، وقوله تعالى: (فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ )(آل عمران: الآية20) يشمل الإيمان.
كذلك الإيمان إذا ذكر وحده دخل فيه الإسلام، قال الله تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(الصف: الآية13) بعد أن ذكر (تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)(الصف: الآية11) قال: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف:13.
- أما إذا ذكرا جميعاً فيفترقان ،ويكون الإسلام بالأعمال الظاهرة من أقوال اللسان وعمل الجوارح، والإيمان بالأعمال الباطنة من اعتقادات القلوب وأعمالها. مثاله: هذا الحديث الذي معنا، ويدل على التفريق قول الله عزّ وجل: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ )(الحجرات: الآية14).
فإن قال قائل: يرد على قولنا: إذا اجتمعا افترقا إشكال، وهو قول الله تعالى في قوم لوط: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ*فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذّاريات:35-36] فعبر بالإسلام عن الإيمان؟
فالجواب: أن هذا الفهم خطأ، وأن قوله: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يخص المؤمنين وقوله: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يعم كل من كان في بيت لوط، وفي بيت لوط من ليس بمؤمن، وهي امرأته التي خانته وأظهرت أنها معه وليست كذلك، فالبيت بيت مسلمين، لأن المرأة لم تظهر العداوة والفرقة، لكن الناجي هم المؤمنون خاصة، ولهذا قال: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وهم ما عدا هذه المرأة، أما البيت فهو بيت مسلم.
ويؤخذ من هذه الآية فائدة هي: أن البلد إذا كان المسيطر عليه هم المسلمون فهوبلد إسلامي وإن كان فيه نصارى أو يهود أومشركون أوشيوعيون، لأن الله تعالى جعل بيت لوط بيت إسلام مع أن امرأته كافرة، هذا هو التفصيل في مسألة الإيمان والإسلام.
والحاصل أنه إذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وإن ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإن ذكرا جميعاً افترقا، فصار الأمر كما قال بعضهم: إن اجتمعا افترقا، إن افترقا اجتمعا ولهذا نظائر: كالمسكين والفقير، والبر والتقوى، فهذه الألفاظ إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت.
.13 أن أركان الإيمان ستة كما سبق، وهذه الأركان تورث للإنسان قوة الطلب في الطاعة والخوف من الله عزّ وجل .
.14 أن من أنكر واحداً من هذه الأركان الستة فهو كافر، لأنه مكذّب لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
.15 إثبات الملائكة وأنه يجب الإيمان بهم.
وهنا مسألة: هل الملائكة أجسام، أم عقول، أم قوى؟
والجواب: الملائكة أجسام بلا شك،كما قال الله عزّ وجل: (جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ)(فاطر: الآية1] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أطت السماء والأطيط: صرير الرحل،أي إذا كان على البعير حمل ثقيل، تسمع له صريراً من ثقل الحمل،فيقول عليه الصلاة والسلام: وحق لها أن تئط، مَا مِنْ مَوْضِعِ أَرْبَعِ أَصَابِع إِلاَّ وَفِيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ للهِ أَوْ رَاكِعٌ أَوْ سَاجِد [40] ويدل لهذا حديث جبريل عليه السلام: أنه له ستمائة جناح قد سد الأفق، والأدلة على هذا كثيرة.
وأما من قال: إنهم أرواح لا أجسام لهم، فقوله منكر وضلال، وأشد منه نكارةً من قال: إن الملائكة كناية عن قوى الخير التي في نفس الإنسان، والشياطين كناية عن قوى الشر، فهذا من أبطل الأقوال.
.16 أنه لابد من الإيمان بجميع الرسل، فلو آمن أحد برسوله وأنكر من سواه فإنه لم يؤمن برسوله، بل هو كافر، واقرأ قول الله عزّ وجل: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:105)
مع أنهم إنما كذبوا نوحاً ولم يكن قبله رسول، لكن تكذيب واحد من الرسل تكذيب للجميع. وكذلك تكذيب واحد من الكتب في أنه نزل من عند الله تكذيب للجميع.
.17 إثبات اليوم الآخر الذي هو يوم القيامة الذي يبعث الناس فيه للحساب والجزاء، حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم، وأهل النار في منازلهم.
وقد أنكر البعث كل المشركين، قال الله عزّ وجل: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يّـس:78) أي يتفتت، فأجاب الله عزّ وجل بأن أمر نبيه أن يقول: ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يّـس:79) فهذا دليل، ووجه كونه دليلاً: أن القادر على الإيجاد قادر على الإعادة، وقال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه)(الروم: الآية27) فإذا كان ابتداء الخلق هيناً وأنتم أيها المشركون تقرون به فإعادته أهون، والكل هين على الله عزّ وجل وهذا الدليل الأول في الرد على منكري البعث.
الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) يعلم كيف يخلق عزّ وجل ويقدر على خلقه، فكيف تقولون إن هذا ممتنع؟ ثم قال تعالى: (الذي جعل لكم) [يس:80] أي جعل لكم أيها المنكرون ولغيركم، (مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَاراً )(يّـس: الآية80) معنى الآية: أن في بلاد الحجاز شجراً يقال له المرخ والعفار يضربونه بالزند ثم يشتعل ناراً، مع أ نه أخضر ورطب وبارد أبعد ما يكون عن النار، ومع ذلك تخلق منه ا لنار، فالقادر على أن يخلق من الشيء ضده قادر على أن يعيد الشيء نفسه، ثم قال سبحانه وتعالى: (فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)(يّـس: الآية80) وهذا إلزام لهم، وليس أمراً غريباً عليكم بل أنتم تستعملونه.
الدليل الثالث: من الأدلة في الرد على منكري البعث قول الله تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (يّـس:81)
فالجواب: (بَلَى) [يس:81] وقد أجاب سبحانه وتعالى نفسه، لأن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ( وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)[يس:81] أي ذو الخلق التام مع القدرة التامة : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82) من كان أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فلا يعجزه شيء، فإن أمر موجوداً أن يعدم عدِم، أومعدوماً أن يوجد وُجِد مهما كان.
وفي قصة موسى عليه السلام لما وقف على البحر العميق أمره الله تعالى أن يضرب البحر فضربه مرة واحدة فانفلق وصار اثني عشر طريقاً يبساً في الحال، فمن يقدر على أن يمايز بين الماء؟ لا يقدر أحد إلاالله عزّ وجل لأنه إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون.
وبهذه المناسبة أودّ أن أنبّه علىكلمة دارجة عند العوام، حيث يقولون (يا من أمره بين الكاف والنون) وهذا غلط عظيم، والصواب: (يا من أمره بعد الكاف والنون) لأن ما بين الكاف والنون ليس أمراً، فالأمر لا يتم إلا إذا جاءت الكاف والنون لأن الكاف المضمومة ليست أمراً والنون كذلك، لكن باجتماعهما تكون أمراً.
فالصواب أن تقول: (يا من أمره -أي مأموره- بعد الكاف والنون) كما قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [يس:82-83]
المهم أنه يجب علينا أن نؤمن باليوم الآخر وإن كانت العقول الضعيفة تستبعده،لأن الله تعالى إذا أمر حصل هذا فوراً،كما قال تعالى: (إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً )(يّـس: الآية53) فبصيحة واحدة تأتي الخلائق كلها.
.18 أن تؤمن بالقدر خيره وشره، والإيمان بالقدر معترك عظيم من زمن الصحابة إلى زماننا هذا، وسبق لنا أن له مراتب أربع وهي: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، فلنتكلم عن كل واحد منها تفصيلاً،وذلك لأهميته:-
المرتبة الأولى : العلم
بأن تؤمن بأن الله عزّ وجل عالم بكل شيء جملة وتفصيلاً مما يتعلق بفعله بنفسه كالخلق والإحياء أو بفعل عباده، والأدلة على هذا كثيرة، قال الله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة: الآية282) وقال عزّ وجل أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14)
والجواب: بلى.
وأما التفصيل ففي آية الأنعام قوله: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام:59)
فإن قال قائل:لدينا إشكال : مثل قول الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31)
وقال الله عزّ وجل: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْب)(المائدة: الآية94) وقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:142)
وأمثال هذه الآيات مشكلة، لأن ظاهرها تجدد علم الله عزّ وجل بعد وقوع الفعل؟
والجواب عن هذا الإشكال من أحد وجهين:
الوجه الأول: إن علم الله عزّ وجل بعد وقوعه غير علمه به قبل وقوعه، لأن علمه به قبل وقوعه علم بأنه سيقع، وعلمه به بعد وقوعه علم بأنه واقع، نظير هذا من بعض الوجوه: الله عزّ وجل مريد لكل شيء حتى المستقبل الذي لانهاية له،مريد له لاشك، لكن الإرادة المقارنة تكون عند الفعل: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّـس:82)
فهاهنا إرادتان: إرادة سابقة، وإرادة مقارنة للفعل، فإذا أراد الله تعالى أن يخلق شيئاً فإنه يريده عند خلقه، لكن كونه أراد أن يخلق في المستقبل فهذا غير الإرادة المقارنة، كذلك العلم.
الوجه الثاني: (حَتَّى نَعْلَمَ) [محمد:31] أي علماً يترتب عليه الثواب والعقاب، لأن علم الله الأزلي السابق لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب، فالثواب والعقاب يكون بعد الامتحان والابتلاء،كما قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31)
وحينئذ قد زال الإشكال ولله الحمد.
وقد قال غلاة القدرية: إن علم الله تعالى بأفعال العباد مستأنف حيث يقولون: الأمر أنف يعني مستأنف، فيقولون: إن الله لايعلم الشيء، إلا بعد وقوعه،فهؤلاء كفرة بلا شك لإنكارهم ما دلّ الكتاب والسنة عليه دلالة قطعية، وأجمع عليه المسلمون.
المرتبة الثانية : الكتابة وهي أنواع :
.1الكتابة العامة في اللوح المحفوظ، كتب الله تعالى كل شيء.
.2 الكتابة العُمريّة، وهي أن الجنين في بطن أمه إذا تم له أربعة أشهر بعث الله إليه الملك الموكل بالأرحام، وأمرَ أن يكتب: أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد. فهذه كتابة عمرية لأنها مقيدة بالعمر،أي تكتب مرة واحدة،ولايعاد كتابتها.
.3 الكتابة الحولية، وهي التي تكون ليلة القدر، كما قال الله عزّ وجل: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان:4)
يعني يبيّن ويفصل (كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وليس أمر من أمر الله إلا وهو حكيم.
وذكر بعضهم: كتابة يومية،واستدل لذلك بقوله عزّ وجل: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن:29)
ولكن الآية ليست واضحة في هذا المعنى.
وهنا مسألة: هل الكتابة تتغير أو لاتتغير؟
الجواب: يقول رب العالمين عزّ وجل: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39)
أي اللوح المحفوظ ليس فيه محو ولا كتاب، فما كتب في اللوح المحفوظ فهو كائن ولاتغيير فيه، لكن ما كتب في الصحف التي في أيدي الملائكة فهذا: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) قال عزّ وجل: ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(هود: الآية114).
وفي هذا المقام يُنكَرُ على من يقولون: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) فهذا دعاء بدعي باطل، فإذا قال: (اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه) معناه أنه مستغن، أي افعل ما شئت ولكن خفف وهذا غلط، فالإنسان يسأل الله عزّ وجل رفع البلاء نهائياً فيقول مثلاً: اللهم عافني، اللهم ارزقني وما أشبه ذلك.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال:لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهَمَّ اِغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ [41] فقولك: (لا أسألك رد القضاء،ولكن أسألك اللّطف فيه) أشد.
واعلم أن الدعاء قد يرد القضاء،كما جاء في الحديث: لاً يَرُدُّ القَدَرَ إِلاَّ الدُّعَاءُ [42] وكم من إنسانٍ افتقر غاية الافتقار حتى كاد يهلك،فإذا دعا أجاب الله دعاءه، وكم من إنسان مرض حتى أيس من الحياة فيدعو فيستجيب الله دعاءه.
قال الله تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الانبياء:83)
فذكر حاله يريدُ أنّ اللهَ يكشفُ عنهُ الضُّرَّ، قال الله فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) (الانبياء: الآية84)
المرتبة الثالثة : المشيئة :
ومعناها: أن تؤمن بأن كل كائن وجوداً أو عدماً فهو بمشيئة الله، كالمطر، والجفاف، ونبات الأرض، والإحياء، والإماتة، وهذا لا إشكال فيه، وهو مشيئة الله عزّ وجل لفعله ،وكذلك ما كان من فعل المخلوق فهو أيضاً بمشيئة الله،ودليل ذلك قوله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:28-29] وقال الله عزّ وجل: ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ) [البقرة:253] وأجمع المسلمون على هذه الكلمة: (ماشاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.)
ففعل العبد بمشيئة الله. ويرد إشكال وهو إذا كان فعل العبد بمشيئة الله صار الإنسان مجبراً على العمل، لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فيؤدي هذا الاعتقاد إلى مذهب الجبرية، وهو مذهب الجهمية.
* والجهمية: لهم ثلاث جيمات كلها فساد:
الجهم: وهذا يتعلق بالصفات، والجبر: يتعلق بالقدر، الإرجاء: يتعلق بالإيمان، ثلاث جيمات كلها لاخير فيها.
ولهذا قول القائل: إذا كان كل شيء بمشيئة الله وبكتابة الله،فنحن مجبرين على أعمالنا؛ قولٌ لايخفى مافيه من الفساد، لأنه إذا كان الإنسان مجبراً وفعل الفعل ثم عُذب عليه، ولهذا لو حدث من بشر لصاح الناس به، فكيف بالخالق عزّ وجل ؟
ولذلك يعتبر هذا القول من أبطل الأقوال، ونحن نشعر بأنهم لايجبرون على الفعل ولا على الترك، وأننا نفعل ذلك باختيارنا التام.
وبهذا التقرير يبطل هذا الاستفهام الحادث المحدث، هل الإنسان مسير أو مخير ؟
وهذا سؤال غير وارد وعلى من يسأل هذا السؤال أن يسأل نفسه:هل أجبره أحد على أن يسأل هذا السؤال؟ وكلٌّ يعرف أن الإنسان مخير لا أحد يجبره، فعندما أحضر من بيتي إلى المسجد هل أشعر بأن أحداً أجبرني؟ لا، وكذا عندما أتأخر باختياري لا أشعر بأن أحداً أجبرني، فالإنسان مخيّر لا شك، لكن ما يفعله الإنسان نعلم أنه مكتوب من قبل، ولهذا نستدل على كتابة الله عزّ وجل لأفعالنا وإرادته لها وخلقه لها بعد وقوعها، أما قبل الوقوع فلا ندري، ولهذا قال الله عزّ وجل: ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إن الله عليم خبير) (لقمان: الآية34) فإذا كان هذا هو الواقع بالنسبة للمشيئة: أن الله تعالى يشاء كل شيء لكن لا يجبر العباد، بل العباد مختارون فلا ظلم حينئذ، ولهذا إذا وقع فعل العبد من غير اختيار رُفِع عنه الإثم، إن كان جاهلاً أو مكرهاً أو ناسياً،فإنه يُرفع عنه الإثم لأنه لم يختره.
ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّار قَالُوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَفَلا نَدَعُ العَمَلَ وَنَتَّكِلُ عَلَى مَا كُتِبَ، قَالَ: لا، اعْمَلُوْا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ -اللهم اجعلنا منهم- فَيُيَسَّرُوْنَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُوْنَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَة ثُمَّ قَرَأَ النبي صلى الله عليه وسلم - مستدلاً ومقرراً لما قال- قول الله عزّ وجل: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل:5-10) [43]
إذاً نعمل .الرّزق مكتوب ومراد لله، ومع ذلك الإنسان يسعى للرزق.
وكذا الولد مكتوب أي أن الإنسان سيولد له مكتوب، ومع ذلك فالإنسان يسعى لهذا ويطلب الأولاد بالنكاح، ولا يقول: سأنام على الفراش وإن كان الله مقدراً لي الولد سيأتي به، فلو قال أحد هذا الكلام لقالوا: إنه مجنون.
كذلك العمل الصالح: اعمل عملاً صالحاً من أجل أن تدخل الجنة، ولا أحد يمنعك من الطاعة، ولا أحد يكرهك على المعصية.
وقد احتجّ المشركون بالقدر على شركهم،كما قال الله عنهم: ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)[الأنعام:148].
والجواب: قال الله تعالى: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) [الأنعام:148] فلم تقبل منهم هذه الحجة، لأن الله تعالى جعل ذلك تكذيباً وجعل له عقوبة: (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) .
فإن قال قائل: إن لدينا حديثاً أقرّ فيه النبي صلى الله عليه وسلم الاحتجاج بالقدر،وهو أن آدم وموسى تحاجا -أي تخاصما- فقال موسى لآدم: أنت أبونا خيبتنا، أخرجتنا ونفسك من الجنة -لأن خروج آدم من الجنة من أجل أنه أكل من الشجرة التي نُهِيَ عن الأكل منها -فقال له آدم: أتلومني على شيء قد كتبه الله عليَّ قبل أ ن يخلقني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: حَجَّ آدَمُ مُوْسَى مرتين أو ثلاثاً وفي لفظ: فَحَجَّهُ آدَمُ [44] يعني غلبه في الحجة.
هذا يتمسّك به من يحتجّ بالقدر على فعل المعاصي.
ولكن كيف المخرج من هذا والحديث في الصحيحين؟
أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بجواب، وأجاب تلميذه ابن القيم - رحمه الله - بجواب آخر.
شيخ الإسلام قال: إن آدم عليه الصلاة والسلام فعل الذنب، وصار ذنبه سبباً لخروجه من الجنة، لكنه تاب من الذنب، وبعد توبته اجتباه الله وتاب عليه وهداه، والتائب من الذنب كمن لاذنب له،ومن المحال أن موسى عليه الصلاة والسلام -وهو أحد أولي العزم من الرسل- يلوم أباه على شيء تاب منه ثم اجتباه الله بعده وتاب عليه وهداه،وإنما اللوم على المصيبة التي حصلت بفعله،وهي إخراج الناس ونفسه من الجنة، فإن سبب هذا الإخراج هو معصية آدم، على أن آدم عليه الصلاة والسلام لاشك أنه لم يفعل هذا ليخرج من الجنة حتى يلام، فكيف يلومه موسى؟
وهذا وجه ظاهر في أن موسى عليه السلام لم يرد لوم آدم على فعل المعصية، إنما على المصيبة التي هي من قدر الله وحينئذ يتبين أنه لاحجة في الحديث لمن يستدل على فعل المعاصي.
إذاً احتج على المصيبة وهي الإخراج من الجنة،ولهذا قال:أخرجتنا ونفسك من الجنة ولم يقل: عصيت ربك، فهنا كلام موسى مع أبيه آدم على المصيبة التي حصلت، وهي الإخراج من الجنة،وإن كان السبب هو فعل آدم. وقال رحمه الله: اللوم على المصائب وعلى المعائب إن استمر الإنسان فيها.
أما تلميذه ابن القيم - رحمه الله - فأجاب بجواب آخر قال: إن اللوم على فعل المعصية بعد التوبة منها غلط، وإن احتجاج الإنسان بالقدر بعد التوبة من المعصية صحيح. فلو أن إنساناً شرب الخمر، فجعلت تلومه وهو قد تاب توبة صحيحة وقال: هذا أمر مقدر عليَّ وإلا لست من أهل شرب الخمر،وتجد عنده من الحزن والندم على المعصية، فهذا يقول ابن القيم: لابأس به.
وأما الاحتجاج بالقدر الممنوع فهو: أن يحتج بالقدر ليستمر على معصيته،كما فعل المشركون، أما إنسان يحتج بالقدر لدفع اللوم عنه مع أن اللوم قد اندفع بتوبته فهذا لابأس به.
وهذا الجواب جواب واضح يتصوره الإنسان بقرب، وإن كان كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - أسد وأصوب، لكن لامانع بأن يُجاب بما أجاب به العلامة ابن القيم .
وقال ابن القيم:نظير هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم حين طرق ابنته فاطمة وابن عمه عليَّاً رضي الله عنهما ليلاً فوجدهما نائمين، فقال: أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟ فكأنه عاب عليهما، أي لماذا لم تقوما لصلاة التهجّد فقال علي رضي الله عنه : يَا رَسُوْلَ اللهِ إِنَّ أَنْفُسَنَا بِيَدِ اللهِ عزّ وجل فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا؛ بَعَثَنَا، فَخَرَجَ النبي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْرِبُ عَلَى فَخِذِهِ وَيَقُوْلُ: وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيءٍ جَدَلاً[45] لأن عليّاً رضي الله عنه دافع عن نفسه بأمرٍ انتهى وانقضى.
ولو أن إنساناً فعل معصية وأردنا أن نقيم عليه العقوبة حدّاً أو تعزيراً وقال: أنا مكتوب عليَّ هذا. ولنفرض أنه زنا وقلنا: اجلدوه مائة جلدة وغربوه عاماً عن البلد، فقال: مهلاً، هذا شيء مكتوب عليَّ، أتنكرون هذا؟ فسنقول: لاننكره، فيقول: لالوم عليّ، فنقول: ونحن سنجلدك ونقول هذا مكتوب علينا.
وذكر أن سارقاً رفع إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمر بقطع يده، فقال: مهلاً يا أمير المؤمنين، والله ما سرقت إلا بقدر الله، وهذا جواب صحيح، فقال عمر: ونحن لا نقطعك إلا بقدر الله، فغلبه عمر رضي الله عنه، بل نقول: إننا نقطع يده بقدر الله وشرع الله، فالسارق سرق بقدر الله، لكن لم يسرق بشرع الله،ونحن نقطع يده بقدر الله وشرع الله، ولكن عمر رضي الله عنه سكت عن مسألة الشرع من أجل أن يقابل هذا المحتج بمثل حجته.
فتبين الآن أن الاحتجاج بالقدر على المعاصي باطل، والاحتجاج بالقدر على فوات المطلوب باطل أيضاً، ولذلك نرى الناس الآن يتسابقون إلى الوظائف باختيارهم ولا يفوتونها، ولو أن الإنسان تقاعس ولم يتقدم لامه الناس على هذا، مما يدل دلالة واضحة على أن الإنسان له إرادة وله اختيار.
فبطل بذلك احتجاج العاصي بقدر الله على معاصي الله، ونقول له: أنت قدرت الآن أن الله قد كتب عليك المعصية فعصيت، فلماذا لم تقدر أن الله كتب لك الطاعة وأطعت، لأن القدر سر مكتوم لا يعلمه إلا الله، ولا نعلم ماذا قضى الله وقدر إلا بعد الوقوع، فإذا كنت أقدمت على المعصية فلماذا لم تقدم على الطاعة وتقول إنها بقضاء الله وقدره.
والأمر والحمد لله واضح، ولولا ما أثير حول القضاء والقدر لكان لا حاجة إلى البحث فيه لأنه واضح جداً، وأنه لا حجة بالقدر على المعاصي ولا على ترك الواجبات.
المرتبة الرابعة: الخلق :
فكل مافي الكون فهو مخلوق لله عزّ وجل، بالنسبة لما يحدثه الله تعالى من فعله فهو واضح: كالمطر وإنبات الأرض وما أشبه ذلك، فهو مخلوق لله تعالى لا شك.
لكن بالنسبة لفعل العبد ، هل هو مخلوق لله أم لا؟
الجواب: نعم مخلوق لله، فحركات الإنسان وسكناته كلها مخلوقة لله، ووجه ذلك:
أولاً: أن الله عزّ وجل خلق الإنسان وأعطاه إرادة وقدرة بهما يفعل، فسبب إيجاد العبد لما يوجده الإرادة الجازمة والقدرة التامة، وهاتان الصفتان مخلوقتان لله، وخالق السبب خالق للمسبب.
ثانياً: أن الإنسان إنسان بجسمه ووصفه، فكما أنه مخلوق لله بجسمه فهو مخلوق له بوصفه، ففعله مخلوق لله عزّ وجل،كما أن الطول والقصر والبياض والسواد والسمن والنحافة كلها مخلوقة لله فهكذا أيضاً أفعال الإنسان مخلوقة لله،لأنها صفة من أوصافه، وخالق الأصل خالق للصفة.
ويدل لهذا قول إبراهيم عليه السلام لقومه: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ* وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) [الصافات:95-96] تحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن تكون (ما) مصدرية والمعنى: خلقكم وخلق عملكم، وهذا نص في أن عمل الإنسان مخلوق لله تعالى.
والمعنى الثاني: أن تكون (ما) اسماً موصولاً، ويكون المعنى: خلقكم وخلق الذي تعملونه؟ فكيف يمكن أن نقول:إن الآية دليل على خلق أفعال العباد على هذا التقدير ؟
والجواب: أنه إذا كان المعمول مخلوقاً لله، لزم أن يكون عمل الإنسان مخلوقاً، لأن المعمول كان بعمل الإنسان،فالإنسان هو الذي باشر العمل في المعمول، فإذا كان المعمول مخلوقاً لله، وهو فعل العبد، لزم أن يكون فعل العبد مخلوقاً فيكون في الآية دليل على خلق أفعال العباد على كلا الاحتمالين.
ومن فوائد هذا الحديث:
.19أن القدر ليس فيه شر، وإنما الشر في المقدور،وتوضيح ذلك بأن القدر بالنسبة لفعل الله كله خير، ويدل لهذا: قول النبي صلى الله عليه وسلم : وَالشّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ [46] أي لاينسب إليك،فنفس قضاء الله تعالى ليس فيه شرٌّ أبداً، لأنه صادر عن رحمة وحكمة، لأن الشر المحض لا يقع إلا من الشرير ،والله تعالى خير وأبقى.
إذاً كيف نوجّه وتؤمن بالقدر خيره وشرّه ؟
الجواب: أن نقول :المفعولات والمخلوقات هي التي فيها الخير والشر، أما أصل فعل الله تعالى وهو القدر فلا شرّ فيه، مثال ذلك: قول الله عزّ وجل ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ )(الروم: الآية41) هذا بيان سبب فساد الأرض ،وأما الحكمة فقال: (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(الروم: الآية41) إذن هذه مصائب من جدب في الأرض ومرض أو فقر،ولكن مآلها إلى خير، فصار الشرّ لايضاف إلى الرب، لكن يضاف إلى المفعولات والمخلوقات مع أنها شر من وجه وخير من وجه آخر، فتكون شراً بالنظر إلى ما يحصل منها من الأذية، ولكنها خير بما يحصل منها من العاقبة الحميدة (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].
ومن الحكمة أن يكون في المخلوق خير وشر، لأنه لولا الشر ما عُرف الخير،كما قيل: (وبضدها تتبين الأشياء) فلو كان الناس كلهم على خير ما عرفنا الشر، ولو كانوا كلهم على شر ما عرفنا الخير، كما أنه لا يعرف الجمال إلا بوجود القبيح، فلو كانت الأشياء كلها جمالاً ما عرفنا القبيح.
إذا إيجاد الشر لنعرف به الخير، لكن كون الله تعالى يوجد هذا الشر ليس شراً، فهنا فرق بين الفعل والمفعول، ففعل الله الذي هو تقديره لا شر فيه، ومفعوله الذي هو مُقدرهُ ينقسم إلى خير وشر، وهذا الشر الموجود في المخلوق لحكمة عظيمة.
فإذا قال قائل: لماذا قدر الله الشر؟
فالجواب: أولاً: ليُعرف به ا لخير.
ثانياً: من أجل أن يلجأ الناس إلى الله عزّ وجل.
ثالثاً: من أجل أن يتوبوا إلى الله.
فكم من إنسان لا يحمله على الورد ليلاً أو نهاراً إلا مخافة شرور الخلق، فتجده يحافظ على الأوراد لتحفظه من الشرور، فهذه الشرور في المخلوقات لتحمل الإنسان على الأذكار والأوراد وما أشبهها، فهي خير.
ولنضرب مثلاً في رجل له ابن مشفق عليه تماماً، وأصيب الابن بمرض وكان من المقرر أن يكوى هذا الابن بالنار، ولا شك أن النار مؤلمة للابن، لكن الأب يكويه لما يرجو من المصلحة بهذا الكي، مع أن الكي في نفسه شر، لكن نتيجته خير.
وإذا علمت أن فعل الله عزّ وجل الذي هو فعله كله خير اطمأننت إلى مقدور الله عزّ وجل واستسلمت تماماً،وكنت كما قال الله عزّ وجل: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ )(التغابن: الآية11) قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
والإنسان إذا رضي بالقدر حقاً استراح من الحزن والهم، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيْفِ، وَفِيْ كُلٍّ خَيْر، اِحْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وِاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلا تَقُلْ: لَوْ أَنِّيْ فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا، فَإِنَّ - لَوْ - تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ [47] فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على ما ينفع، ثم إذا اختلفت الأمور فقل: هذا قدر الله وما شاء فعل.
وليس المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيْفِ قوي العضلات، بل المراد: المؤمن القوي في إيمانه لا في جسمه، فكم من إنسان قوي الجسم لكن لا خير فيه، وبالعكس. وبهذه المناسبة لو كتبت هذه الجملة المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيْفِ على لوحة كبيرة فوق ملعب رياضي، على أن المراد بالمؤمن القوي قوي العضلات فإن هذا لايجوز
فالمهم أن الشر لاينسب إلى الله تعالى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ [48] وإنما ينسب الشر إلى المخلوقات، قال الله تعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ* مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) [الفلق:1-2] فالشرّ ينسب إلى المخلوقات.
وهنا مسألة: هل في تقدير المخلوقات الشريرة حكمة ؟
والجواب: نعم، حكمة عظيمة، ولولا هذه المخلوقات الشريرة ما عرفنا قدر المخلوقات الخيّرة، فالذئب مثلاً صغير الجسم بالنسبة للبعير، ومع ذلك الذئب يأكل الإنسان كما قال الله تعالى في سورة يوسف علىلسان يعقوب عليه السلام: (وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ )(يوسف: الآية13) ومعلوم أن البعير لا يأكل الإنسان، بل إن البعير القوي الكبير الجسم ينقاد للصبي الصغير، قال الله عزّ وجل: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ*وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) [يس:71-72] فتأمل الحكمة البالغة أن الله تعالى خلق الإبل،وهي أجسام كبيرة،وأمرنا الله تعالى أن نتدبر حيث قال: (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (الغاشية:17)
وخلق الذئاب وأشباهها مما يؤذي بني آدم حتى يعلم الناس بذلك قدرة الله عزّ وجل ،وأن الأمور كلها بيده.
20- أن الساعة لا يعلمها أحد إلا الله عز وجل ،لأن أفضل الرسل من الملائكة سأل أفضل الرسل من البشر عنها، فقال: ما المَسْؤولُ عَنْهَا بَأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ.
ويترتب على هذه الفائدة أنه لو صدَّق أحد من الناس شخصاً ادعى أن الساعة تقوم في الوقت الفلاني، فإنه يكون كافراً، لأنه مكذب للقرآن والسنة.
.21عظم الساعة، ولهذا جاءت لها أمارات وعلامات حتى يستعد الناس لها - رزقنا الله وإياكم الاستعداد لها -.
.22أننا إذا كنا لانعلم الشيء فإننا نطلب ما يكون من علاماته، لأن جبريل عليه السلام قال: أخبرني عن أماراتها
.23ضرب المثل بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم : أن تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا وفي لفظ: ربَّهَا والعلامة الثانية: أنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رُعَاءَ الشَّاءِ يَتْطَاوَلُوْنَ فَي البُنْيَانِ.
فإن قال قائل: لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمارات أخرى أوضح من هذا؟
فالجواب: أن العلامات الأخرى بيّنة واضحة لا يحتاج السؤال عنها، ولذلك عدل النبي صلى الله عليه وسلم عنها إلى ذكر هذه الصورة.
.24أن الملائكة يمشون إذا تحولوا إلى بشر، لقوله: ثم انْطَلَقَ
وهل يمشون إذا كانوا على صفةالخلق الذي خلقواعليه؟
الجواب: قال الله عزّ وجل: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً) (الاسراء:95)
ولهم أجنحة يطيرون بها، كما قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ) (فاطر:1)
.25إلقاء العالم على طلبته ما يخفى عليهم،لقول النبي صلى الله عليه وسلم : أَتَدْرُوْنَ مَنِ السَّائِل
.26أن السائل عن العلم يكون معلماً لمن سمع الجواب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فإنه جبريل أَتَاكُم يُعَلِّمُكُمْ دِيْنَكُمْ مع أن الذي علمهم النبي صلى الله عليه وسلم لكن لما كان سؤال جبريل هو السبب جعله هو المعلم.
ويتفرع على هذا: أنه ينبغي لطالب العلم إذا كان يعلم المسألة وكان من المهم معرفتها أن يسأل عنها وإن كان يعلمها، وإذا سأل عنها وأجيب صار هو المعلم.
.27أن الس الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:31 | |
| الحديث الثالث عَنْ أَبِيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْن الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيْتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البِيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ)[50]
الشرح
عَنْ أَبِيْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ هذه كنية، عبد الله بن عمر هذا اسم علم.
والكنية: كل ما صدر بأبٍ، أو أم، أو أخ، أو خالٍ، أو ما أشبه ذلك. والعلم: اسم يعين المسمى مطلقاً.
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال العلماء: إذا كان الصحابي وأبوه مسلمين فقل: رضي الله عنهما، وإذا كان الصحابي مسلماً وأبوه كافراً فقل: رضي الله عنه .
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ يَقُوْلُ: بُنِيَ الإِسْلامُ الذي بناه هو الله عزّ وجل، وأبهم الفاعل للعلم به، كما أُبهم الفاعل في قوله تعالى: ( وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً)(النساء:الآية28) فلم يبين من الخالق، لكنه معلوم، فما عُلم شرعاً أو قدراً جاز أن يبنى فعله لما لم يسم فاعله.
عَلَى خَمْسٍ أي على خمسِ دعائم.
شَهَادَة أنْ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ (شهادة) يجوز فيها وجهان في الإعراب:
الأول: الضم (شهادةُ) بناء على أنها خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هي شهادة.
والثاني: الكسر (شهادةِ) على أنها بدل من قوله: خمس، وهذا البدل بدل بعض من كل.
وقد سبق الكلام على الشهادتين في شرح حديث جبريل عليه السلام[51]
وَإِقَامِ الصّلاةِ، وَإِيْتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البّيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَان وهذا سبق الكلام عليه في شرح حديث جبريل عليه السلام[52] .
لكن في هذا الحديث إشكال وهو:تقديم الحج على الصوم.
والجواب عليه أن يقال: هذا ترتيب ذكري، والترتيب الذكري يجوز فيه أن يقدم المؤخر كقول الشاعر:
إن من ساد ثم ساد أبوه ثم ساد من بعد ذلك جده
فالترتيب هنا ترتيب ذكري.
وقد سبق في حديث جبريل تقديم الصيام على الحج، ونقول في شرح الحديث:
إن الله عزّ وجل حكيم، حيث بنى الإسلام العظيم علىهذه الدعائم الخمس من أجل امتحان العباد.
- الشهادتان: نطق باللسان، واعتقاد بالجنان.
- إقام الصلاة: عمل بدني يشتمل على قول وفعل، وما قد يجب من المال لإكمال الصلاة فإنه لا يعد منها، وإلا فمن المعلوم أنه يجب الوضوء للصلاة، وإذا لم تجد ماءً فاشتر ماءً بثمن ، ومن المعلوم أيضاً أنك ستستر العورة في الصلاة وتشتري السترة بمال لكن هذا خارج عن العبادة، ولذلك نقول:إن الصلاة عبادة بدنية محضة.
- إيتاء الزكاة: عبادة مالية لا بدنية، وكون الغني يجب أن يوصلها للفقير، وربما يمشي وربما يستأجر سيارة، هذا أمر خارج عن العبادة، ولهذا لو كان الفقير عند الغني أعطاه الدراهم مباشرة بدون أي عمل، ولا نقول: اذهب أيها التاجر إلى أقصى البلد ثم ارجع.
- صوم رمضان: عبادة بدنية لكن من نوع آخر، الصلاة بدنية لكنها فعل، والصيام بدني لكنه كف وترك، لأنه قد يسهل على الإنسان أن يفعل،ويصعب عليه أن يكف، وقد يسهل عليه الكف ويصعب عليه الفعل، فنوعت العبادات ليكمل بذلك الامتحان، فسبحان الله العظيم.
- حج البيت: هل يتوقف الحج على بذل المال؟
فيه تفصيل: إذا كان الإنسان يحتاج إلى شد رحل احتاج إلى المال، لكن هذا خارج العبادة، هذا من جنس الوضوء للصلاة.
وإذا قدرنا أن الرجل في مكة فهل يحتاج إلى بذل المال؟
الجواب: إذا كان يستطيع أن يمشي على رجليه فلا يحتاج إلى بذل المال، والنفقة من الأكل والشرب لابد منها حتى وإن لم يحج.
لذلك الحج - عندي- متردد بين أن يكون عبادة مالية، أوعبادة بدنية مالية، وعلىكل حال إن كان عبادة مالية بدنية فهو امتحان.
فصارت هذه الحكمة العظيمة في أركان الإسلام أنها:
بذل المحبوب، والكف عن المحبوب، وإجهاد البدن، كل هذا امتحان.
بذل المحبوب: في الزكاة ،لأن المال محبوب إلى الإنسان،كما قال الله عزّ وجل: (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات:8] وقال( وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً) (الفجر:20)
والكف عن المحبوب: في الصيام كما جاء في الحديث القدسي: يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِيْ [53] .
فتنوعت هذه الدعائم الخمس على هذه الوجوه تكميلاً للامتحان، لأن بعض الناس يسهل عليه أن يصوم، ولكن لا يسهل عليه أن يبذل قرشاً واحداً، وبعض الناس يسهل عليه أن يصلي،ولكن يصعب عليه أن يصوم.
ويذكر أن بعض الملوك وجبت عليه كفارةفيها تحرير رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً. فاجتهد بعض العلماء وقال لهذا الملك: يجب عليك أن تصوم شهرين متتابعين ولا تعتق، فقيل للمفتي في ذلك فقال: لأن الشهرين أشق على هذا الملك من إعتاق رقبة، والمقصود بالكفارة محو ما حصل من إثم الذنب، وأن لا يعود.
فنقول: هذا استحسان لكنه ليس بحسن وفي غير محله لأنه مخالف للشرع، فألزمه بما أوجب الله عليه وحسابه على الله عزّ وجل، وليس إليك.
[50] سبق تخريجه صفحة (57)
[51] صفحة (21)
[52] صفحة (22)
[53] - أخرجه البخاري – كتاب: التوحيد، باب: قول الله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) ، (7492)، ومسلم – كتاب الصيام، باب: فضل الصيام، (1151)،(164). الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:32 | |
| الحديث الرابع عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُوْدْ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ يَكُوْنُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنفُخُ فِيْهِ الرٌّوْحَ،وَيَؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ. فَوَالله الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ إِنََّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَايَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا) [54] رواه البخاري ومسلم.
الشرح
قوله: حَدَّثَنَا حدث وأخبر في اللغة العربية بمعنى واحد، وهي كذلك عند قدماء المحدثين، لكن عند المتأخرين من صاروا يفرقون بين (حدثنا) و(أخبرنا)، وعلم ذلك مذكور في مصطلح الحديث.
وقوله: وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْق الجملة هذه مؤكدة لقوله: رَسُولُ اللهِ لأن من اعترف بأنه رسول اعترف بأنه صادق مصدوق.
وقوله: وَهُوَ الصَّادِقُ أي الصادق فيما أَخْبَر به المَصْدُوْقُ فيما أُخبِِر به، فإذا قلت: قدم زيد، وكان قادماً، فهذا يقال للمخبر:إنه صادق. وإذا حدثني إنسانٌ وقال: قدم زيد وهو صادق فإنه يقال لي مصدوق، أي مخبر بالصدق.
والنبي صلى الله عليه وسلم وصفه كذلك تماماً، فهو صادق فيما أخبر به، ومصدوق فيما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام.
وإنما ذكر ابن مسعود رضي الله عنه هذه الجملة،لأن التحدث عن هذا المقام من أمور الغيب التي تخفى، وليس في ذلك الوقت تقدم طبٍّ حتى يُعرف ما يحصل.
وهناك ماهو فوق علم الطب وهو كتابة الرزق والأجل والعمل وشقي أو سعيد، فلذلك من فقه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أتى بهذه الجملة المؤكدة لخبر النبي صلى الله عليه وسلم .
قال: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِيْ بَطْنِ أُمِّهِ وذلك أن الإنسان إذا أتى أهله فهذا الماء المتفرق يُجمع،وكيفية الجمع لم يذكر في الحديث، وقيل: إن الطبّ توصّل إلى معرفة بعض الشيء عن تكون الأجنة والله أعلم.
أَرْبَعِيْنَ يَوْمَاً نُطْفَة أي قطرة من المني.
ثُمَّ يَكُوْنُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ وهل ينتقل فجأة من النطفة إلى العلقة؟
الجواب: لا، بل يتكون شيئاً فشيئاً،فيحمّارُ حتى يصل إلى الغاية في الحُمرةِ فيكون علقة.
والعلقة هي: قطعة الدم الغليظ، وهي دودة معروفة ترى في المياه الراكدة.
ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِك أي أربعين يوماً، والمضغة: هي قطعة لحم بقدر ما يمضغه الإنسان.
وهذه المضغة تتطور شيئاً فشيئاً،ولهذا قال الله تعالى (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)(الحج: الآية5) .
فالجميع يكون مائة وعشرين، أي أربعة أشهر.
ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ والمرسِل هو الله رب العالمين عزّ وجل، فيرسل الملك إلى هذا الجنين،وهو واحد الملائكة،والمراد به الجنس لا ملك معين.
فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ الروح ما به يحيا الجسم، وكيفية النفخ الله أعلم بها، ولكنه ينفخ في هذا الجنين الروح ويتقبلها الجسم.
والروح سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فأمره الله أن يقول (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(الاسراء الآية85) فالروح من أمر الله أي من شأنه، فهو الذي يخلقها عزّ وجل (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(الاسراء الآية85) وهذا فيه نوع من التوبيخ،كأنه قال:ما بقي عليكم من العلم إلاالروح حتى تسألوا عنها، ولهذا قال الخضر لموسىعليه السلام لما شرب الطائر من البحر(ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر. أي أنه لم ينقص شيئاً).
وَيُؤْمَرُ أي الملك بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ والآمر هو الله عزّ وجل بِكْتبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ .
رِزْقه الرزق هنا: ما ينتفع به الإنسان وهو نوعان: رزق يقوم به البدن، ورزق يقوم به الدين.
والرزق الذي يقوم به البدن: هو الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك.
والرزق الذي يقوم به الدين:هو العلم والإيمان، وكلاهما مراد بهذا الحديث.
وَأَجَله أي مدة بقائه في هذه الدنيا، والناس يختلفون في الأجل اختلافاً متبايناً، فمن الناس من يموت حين الولادة، ومنهم من يعمر إلى مائةسنة من هذه الأمة ، أما من قبلنا من الأمم فيعمرون إلى أكثر من هذا، فلبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً.
واختيار طول الأجل أو قصر الأجل ليس إلى البشر، وليس لصحة البدن وقوام البدن ،إذ قد يحصل الموت بحادث والإنسان أقوى ما يكون وأعز ما يكون، لكن الآجال تقديرها إلى الله عزّ وجل.
وهذا الأجل لا يتقدم لحظة ولا يتأخر، فإذا تم الأجل انتهت الحياة ،وأذكر لكم قصة وقعت في عنيزة: مر دباب أي دراجة نارية بتقاطع، وإذا بسيارة تريد أن تقطع، فوقف صاحب الدباب ينتظر عبور السيارة، والسيارة وقفت تنتظر عبور الدباب، ثم انطلقا جميعاً فصُدم الدباب ومات الراكب الرديف الذي وراء السائق، فتأمل الآن، وقف هذه الدقيقة من أجل استكمال الأجل (سبحان الله) . قال الله تعالى (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا) (المنافقون:11)
وقال صلى الله عليه وسلم : إِنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا[55] .
وهنا مسألة: هل الأجل وراثي؟
الجواب: الأجل ليس وراثياً، فكم من شاب مات من قبيلة أعمارهم طويلة، وكم من شاب عمَّر في قبيلة أعمارها قصيرة.
وَعَمَله أي ما يكتسبه من الأعمال القولية والفعلية والقلبية، فمكتوب على الإنسان العمل .
وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيْدٌ هذه النهاية، والسعيد هو الذي تم له الفرح والسرور، والشقي بالعكس، قال الله تعالى (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود:105-108] فالنهاية إما شقاء وإما سعادة ، فنسأله سبحانه أن يجعلنا من أهل السعادة.
قال: فَوَاللهِ الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ هذه الجملة قيل إنها مدرجة من كلام ابن مسعود رضي الله عنه وليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
وإذا اختلف المحدثون في جملة من الحديث أمدرجة هي أم من أصل الحديث؟ فالأصل أنها من أصل الحديث، فلا يقبل الإدراج إلابدليل لا يمكن أن يجمع به بين الأصل والإدراج
وعلى هذا فالصواب أنها من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
فَوَاللهِ الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ هذا قسم مؤكد بالتوحيد، القسم: فَوَاللهِ والتوكيد بالتوحيد: الَّذِيْ لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ أي لا إله حق غير الله، وإن كان توجد آلهة تعبد من دون الله لكنها ليست حقاً،كما قال الله عزّ وجل ( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) (الانبياء:43) وقال عزّ وجل (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِل)(لقمان: الآية30).
إِنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ أي حتى يقرب أجله تماماً. وليس المعنى حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع في مرتبة العمل،لأن عمله الذي عمله ليس عملاً صالحاً،كما جاء في الحديث: إِنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فيما يبدو للناس وهو من أهل النار لأنه أشكل على بعض الناس:كيف يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها.
فنقول: عمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، ولم يتقدم ولم يسبق، ولكن حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أي بدنو أجله ، أي أنه قريب من الموت. فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فيدع العمل الأول الذي كان يعمله، وذلك لوجود دسيسة في قلبه ( والعياذ بالله) هوت به إلى هاوية.
أقول هذا لئلاّ يظن بالله ظن السوء: فوالله ما من أحد يقبل على الله بصدق وإخلاص، ويعمل بعمل أهل الجنة إلا لم يخذله الله أبداً.
فالله عزّ وجل أكرم من عبده، لكن لابد من بلاء في القلب.
واذكروا قصة الرجل الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته عليه الصلاة والسلام، وكان هذا الرجل لا يدع شاذة ولا فاذة للعدو إلا قضى عليها، فتعجب الناس منه وقالوا: هذا الذي كسب المعركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فعظم ذلك على الصحابة رضي الله عنهم كيف يكون هذا الرجل من أهل النار؟ فقال رجل: لألزمنه،أي أتابعه، فتابعه، فأصيب هذا الرجل الشجاع المقدام بسهم من العدو فجزع، فلما جزع سل سيفه (والعياذ بالله) ثم وضع ذبابة سيفه على صدره ومقبضه على الأرض، ثم اتّكأ عليه حتى خرج من ظهره، فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال: أشهد أنك رسول الله، قال: بِمَ قال: إن الرجل الذي قلت فيه إنه من أهل النار حصل منه كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيْمَا يَبْدُو للِنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ .
واذكروا قصة الأصيرم من بني عبد الأشهل من الأنصار،كان منابذاً للدعوة الإسلامية عدواً لها، ولما خرج الناس إلى غزوة أحد ألقى الله تعالى في قلبه الإيمان فآمن وخرج في الجهاد وقتل شهيداً، فجاء الناس بعد المعركة يتفقدون قتلاهم وإذا الرجل، فقالوا: ما الذي جاء بك يا فلان، أجئت حدباً على قومك، أم رغبة في الإسلام، قال: بل رغبةفي الإسلام، ثم طلب منهم أن يقرؤوا على النبي صلى الله عليه وسلم السلام، فصار هذا ختامه أن قتل شهيداً مع أنه كان منابذاً للدعوة.
من فوائد هذا الحديث:
.1حسن أسلوب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،وهو كلماته كأنما تخرج من مشكاة النبوة، كلمات عذبة مهذبة، وانظر إلى الأثر المروي عنه: من سرّه أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن[56]. إلى آخر الأثر كأنما يخرج من مشكاة النبوّة.
.2أنه ينبغي للإنسان أن يؤكد الخبر الذي يحتاج الناس إلى تأكيده بأي نوع من أنواع التأكيدات.
.3تأكيد الخبر بما يدل على صدقه، لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ.
.4أن الإنسان في بطن أمه يُجمع خلقه على هذا الوجه الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم .
.5أنه يبقى نطفة لمدة أربعين يوماً.
وقد يقول قائل: هذه النطفة هل يجوز إلقاؤها أولا يجوز؟
والجواب: ذكر الفقهاء (رحمهم الله) أنه يجوز إلقاؤها بدواء مباح، قالوا: لأنه لم يتكون إنساناً،ولم يوجد فيه أصل الإنسان وهو الدم.
وقال آخرون: لا يجوز،لأن الله تعالى قال (فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ* إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) [المرسلات:21-22] فلا يجوز أن نتجاسر على هذا القرار المكين ونخرج الجنين منه، وهذا أقرب إلى الصواب أنه حرام، لكنه ليس كتحريم ما بعده من بلوغه أربعة أشهر.
فإذا قدر أن المرأة مرضت وخيف عليها، فهل يجوز إلقاء هذه النطفة؟
الجواب: نعم يجوز، لأن إلقاءها الآن صار ضروريّاً.
.6 حكمة الله عزّ وجل في أطوار الجنين من النطفة إلى العلقة.
.7أهمية الدم في بقاء حياة الإنسان، وجهه: أن أصل بني آدم بعد النطفة العلقة، والعلقة دم، ولذلك إذا نزف دم الإنسان هلك.
.8أن الطور الثالث هي المضغة، هذه المضغة تكون مخلقة وغير مخلقة بنص القرآن،كما قال الله تعالى (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ )(الحج: الآية5)
لكن ما الذي يترتب على كونها مخلقة أو غير مخلقة ؟
الجواب: يترتب عليها مسائل:
.1لو سقطت هذه المضغة غير مخلقة لم يكن الدم الذي يخرج نفاساً، بل دم فساد.
.2ولو سقطت هذه المضغة قبل أن تخلق وكانت المرأة في عدة لم تنقض العدة، لأنه لابد في انقضاء العدة أن يكون الحمل مخلقاً، ولابد لثبوت النفاس من أن يكون الحمل مخلقاً، لأنه قبل التخليق يحتمل أن تكون قطعة لحم فقط وليست آدمياً، فلذلك لا نعدل إلى إثبات هذه الأحكام إلا بيقين بأن يتبين فيه خلق إنسان.
.9أن نفخ الروح يكون بعد تمام أربعة أشهر، لقوله: ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيْهِ الرُّوْحَ.
وينبني علىهذا:
أ- أنه إذا سقط بعد نفخ الروح فيه فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ويسمى ويعق عنه، لأنه صار آدمياً إنساناً فيثبت له حكم الكبير.
ب. أنه بعد نفخ الروح فيه يحرم إسقاطه بكل حال، فإذا نفخت فيه الروح فلا يمكن إسقاطه،لأن إسقاطه حينئذ يكون سبباً لهلاكه، ولايجوز قتله وهو إنسان.
فإن قال قائل: أرأيتم لو كان إبقاؤه سبباً لموت أمه، أفيلقى وتبقى حياة الأم، أو يبقى وتهلك الأم ثم يهلك الجنين؟
فالجواب: نقول ربما أهل الاستحسان يقولون بالأول، ولكن لااستحسان في مقابلة الشرع.
فنقول: الثاني هو المتعيّن بمعنىأنه لا يجوز إسقاطه،حتى لو قال الأطباء: إنه إن بقي هلكت الأم. وقد يحتج من يقول بإسقاط الجنين بأنه إذا هلكت الأم هلك الجنين فيهلك نفسان، وإذا أخرجناه هلك الجنين لكن الأم تسلم.
والجواب على هذا الرأي الفاسد أن نقول:
أولاً: قتل النفس لإحياء نفس أخرى لا يجوز، ولذلك لو فرض أن رجلين كانا في سفر في أرض فلاة ولا زاد معهما، وكان أحدهما كبيراً والآخر عشر سنين أو تسع سنين فجاع الكبير جداً بحيث لو لم يأكل لهلك، فلا يجوز للكبير أبداً أن يذبح الصغير ليأكله ويعيش بإجماع المسلمين .
ولو قدر أن الصبي مات من الجوع وبقي الكبير وهو إما أن يأكله فيبقى أو يتركه فيهلك، فهل يجوز له الأكل من جسد الصغير؟
والجواب: مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- في المشهور عنه أنه لايجوز أكله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كَسْرُ عَظْمِ الميِّتِ كَكَسْرِهِ حَيَّاً[57] وذبح الميت كذبحه حياً. والقول الثاني في هذه المسألة: أنه يجوز أن يأكل منه ما يسد رمقه،لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت.
أولاً: فنقول: أننا لو أسقطنا الجنين فهلك فنحن الذين قتلناه، ولو أبقيناه فهلكت الأم ثم هلك هو،فالذي أهلكهما هو الله عزّ وجل أي ليس من فعلنا.
ثانياً: لا يلزم من هلاك الأم أن يهلك الجنين لا سيما في وقتنا الحاضر، إذ من الممكن إجراء عملية سريعة لإخراج الجنين فيحيى، ولهذا بعض البيطريين في الغنم وشبهها يستطيع إذا ماتت الأم أن يخرج حملها قبل أن يموت .
وأيضاً نقول: لو أنه مات هذا الجنين في بطن أمه من عند الله عزّ وجل لايلزم أن تموت هي، فيُخرج لأنه ميت وتبقى الأم.
الخلاصة: أنه إذا نفخت فيه الروح فإنه لا يجوز إسقاطه بأي حال من الأحوال.
ومن فوائد هذا الحديث:
.10عناية الله تعالى بالخلق حيث وكل بهم وهم في بطون أمهاتهم ملائكة يعتنون بهم، ووكل بهم ملائكة إذا خرجوا إلى الدنيا، وملائكة إذا ماتوا، كل هذا دليل على عناية الله تعالى بنا.
.11أن الروح في الجسد تنفخ نفخاً ولكن لا نعلم الكيفية، وهذا كقوله تعالى (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا)(التحريم: الآية12)
لكن لا ندري كيف هذا؟ لأن هذا من أمور الغيب.
.12أن الروح جسم، لأنه ينفخ فيحل في البدن.
ولكن هل هذا الجسم من جنس أجسامنا الكثيفة المكونة من عظام ولحم وعصب وجلود؟
الجواب: لا علم للبشر بها، بل نقول كما قال تعالى (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(الاسراء: الآية85) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- : ولما لم يكن عند المتكلمين والفلاسفة علم شرعي بحال الروح تخبطوا فيها، فقال بعضهم: إن الروح عرض أي صفة للبدن كالطول والقصر والبياض والسواد، وقال بعضهم: إن الروح هي الدم وقال بعضهم: إن الروح جزء من الإنسان كيده ورجله، فتخبطوا فيها.
وأما أهل السنة فيقولون: الروح من أمر الله عزّ وجل، ولكننا نؤمن بما علمنا من أوصافها في الكتاب والسنة، فمن ذلك:
قول الله تعالى (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ )(السجدة: الآية11)
أي يقبضكم، وقوله (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا)(الأنعام: الآية61) أي قبضته، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة إذا قبضوا الروح من الجسد إذا كان من أهل الجنة - اللهم اجعلنا منهم - فإذا مع الملائكة كفن من الجنة، وحنوط من الجنة، فأخذوها من يد ملك الموت ولم يدعوها طرفة عين ثم جعلوها في ذلك الكفن وصعدوا بها إلى السماء[58] .
إذاً هي جسم لكن مخالف للأجسام الكثيفة التي هي أجسادنا، والله أعلم بكيفيتها. والروح عجيبة، لها حال في المنام فتخرج من البدن لكن ليس خروجاً تامّاً، فتجد نفسك تجوب الفيافي،ربما وصلت إلى الصين أو إلى أقصى المغرب وربما طرت بالطائرة وربما ركبت السيارة، وأنت في مكانك واللحاف قد غطّى جسمك، ومع ذلك تتجول في الأرض، لكنها لا تفارق الجسم في حال النوم مفارقة تامة، فالروح أمرها غريب،ولسنا نعلم منها إلا ما جاء في الكتاب والسنة، وما لانعلمه نَكِلُ علمهُ لله سبحانه وتعالى.
فإذا كنت لا تدري عن نفسك التي بين جنبيك فكيف تحاول أن تعرف كيفية صفات الله عزّ وجل الذي هو أعظم وأجل من أن تحيط به.
فإذا عرفت نفسك وأنك غير قادر على إدراك كيفية صفات الله مهما كنت، فلا تحاول إدراك الكيفية ولا السؤال عنها، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله في السؤال عن كيفية الاستواء: بدعة.
وهذا المثال - أعني مثال الروح- حجة مقنعة لمن يبحث عن كيفية صفات الله،فإذا كان العبد لا يعلم عن روحه التي هي قوام بدنه فكيف بكيفية صفات الله عزّ وجل.
.13أن الملائكة عليهم السلام عبيد يؤمرون وينهون، لقوله: فَيُؤمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ والآمرُ له هو الله عزّ وجل.
.14أن هذه الأربع مكتوبة على الإنسان: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. ولكن هل معنى ذلك أن لا نفعل الأسباب التي يحصل بها الرزق؟
الجواب: بلى نفعل، وما نفعله من أسباب تابع للرزق.
.15أن الملائكة يكتبون.
فلو قال لنا قائل: بأي حرف يكتبون، هل يكتبون باللغة العربية، أم باللغة السريانية، أو العبرية، أو ما أشبه ذلك؟
فالجواب: السؤال عن هذا بدعة، علينا أن نؤمن بأنهم يكتبون، أما بأي لغة فلانقول شيئاً.
هذه الكتابة هل هي في صحيفة، أو تكتب على جبين الجنين؟
الجواب: هناك آثار تدل على أنها تكتب على جبين الجنين، وآثار على أنها تكتب في صحيفة، والجمع بينهما سهل: إذ يمكن أن تكتب في صحيفة ويأخذها الملك إلى ما شاء الله، ويمكن أن تكتب على جبين الإنسان.
.16أن الإنسان لا يدري ماذا كتب له، ولذلك أمر بالسعي لتحصيل ما ينفعه، وهذا أمر مسلّم، فكلنا لا يدري ما كتب له، ولكننا مأمورون أن نسعى لتحصيل ما ينفعنا وأن ندع ما يضرنا.
.17أن نهايةبني آدم أحد أمرين:
إما الشقاء وإما السعادة، قال الله تعال ( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)(هود: الآية105)
وقال تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ )(التغابن: الآية2)
نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من أهل السعادة إنه سميع قريب.
[54] - أخرجه البخاري- كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، (3208)، ومسلم- كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، (2643)،(1)
[55] - أخرجه ابن ماجه- كتاب: التجارات، باب: الحث على المكاسب، (2144)،
[56] أخرجه مسلم- كتاب: المساجد، باب: صلاة الجماعة من سنن الهدى، (654)،(257)
[57] - أخرجه الإمام أحمد- مسند النساء، ج6/ص 105، (25246)، وأبو داود – الجنائز، باب: في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان، (3207)، وابن ماجه – كتاب الجنائز، باب: النهي عن كسر عظام الميت، (1616).
[58] - أخرجه الإمام أحمد- في مسند الكوفيين، ج4/ص287، (18733) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:33 | |
| الحديث الخامس عَنْ أُمِّ المُؤمِنِينَ أُمِّ عَبْدِ اللهِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ : (مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) [59] رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)
الشرح
كُنّيَتْ عائشة رضي الله عنها بأم المؤمنين لأنها إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وجميع أمهات المؤمنين تكنى بهذه الكنية، كما قال الله عزّ وجل ( وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ )(الأحزاب: الآية:6] فكل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين.
وقوله: أُمِّ عَبْدِ اللهِ هذه كنية، وهل وُلِدَ لها - رضي الله عنها- ولدٌ أم لا؟
والجواب: أنه ذكر بعض أهل العلم أنه ولد لها ولد سقط لم يعش، وذكر آخرون أنه لم يولد لها لا سقط ولا حي، ولكن هي تكنّت بهذه الكنية،لأن أحبُّ الأسماء إلى الله: عبد الله، وعبد الرّحمن.[60]
وقوله: عَائِشَةَ هذا اسم أُم المؤمنين وهي ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم ولها ست سنين، وبنى بها ولها تسع سنين، وروت للأمة علماً كثيراً وفقهاً غزيراً، فهي رضي الله عنها من المحدثات، ومن الفقيهات.
مَنْ أَحْدَثَ فِيْ أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ (من) شرطية. و(أحدث) فعل الشرط، وجواب الشرط (فهو رد) واقترن الجواب بالفاء لأنه جملة اسمية، وكلما كان جواب الشرط جملة اسمية وجب اقترانه بالفاء، وعلى هذا قول الناظم فيما يجب اقترانه بالفاء
اسمية طلبية وبجامد وبما وقد وبلن وبالتنفيس
وقوله: فَهُوَ رَدٌّ أي مردود. فـ: رَدٌّ مصدر بمعنى مفعول، والمصدر يأتي بمعنى الفاعل وبمعنى المفعول، ومن إتيانه بمعنى المفعول قول الله تعالى ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ ) (الطلاق الآية6) أي محمول.
وقوله مَنْ أَحْدَثَ أي أوجد شيئاً لم يكن .
فِيْ أَمْرِنَا أي في ديننا وشريعتنا.
مَا لَيْسَ مِنْهُ أي مالم يشرعه الله ورسوله.
فَهُوَ رَدٌّ فإنه مردود عليه حتى وإن صدر عن إخلاص، وذلك لقول الله تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ) [البينة:5] ولقوله تعالى ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)
وفي روايةٍ لمسلم : مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلِيْهِ أَمْرُنَا فَهوَ رَدٌّ وهذه الرواية أعم من رواية مَنْ أَحْدَثَ ومعنى هذه الرواية: أن من عمل أي عمل سواء كان عبادة، أو كان معاملة، أو غير ذلك ليس عليه أمر الله ورسوله فإنه مردود عليه.
* وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، دل عليه قوله تعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ )(الأنعام الآية153] وكذلك الآيات التي سقناها دالة على هذا الأصل العظيم.
وقد اتفق العلماء - رحمهم الله - أن العبادة لا تصح إلا إذا جمعت أمرين:
أولهما: الإخلاص .
والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، والمتابعة أخذت من هذا الحديث ومن الآية التي سقناها.
من فوائد هذا الحديث:
.1تحريم إحداث شيء في دين الله ولو عن حسن قصد، ولو كان القلب يرق لذلك ويقبل عليه، لأن هذا من عمل الشيطان.
فإن قال قائل: لو أحدثت شيئاً أصله من الشريعة ولكن جعلته على صفة معينة لم يأتِ بها الدين، فهل يكون مردوداً أو لا .؟
والجواب: يكون مردوداً، مثل ما أحدثه بعض الناس من العبادات والأذكار والأخلاق وما أشبهها، فهي مردودة .
* وليعلم أن المتابعة لا تتحقق إلا إذا كان العمل موافقاً للشريعة في أمور ستة: سببه ، وجنسه، وقدره، وكيفيته، وزمانه، ومكانه.
فإذا لم توافق الشريعة في هذه الأمور الستة فهو باطل مردود، لأنه أحدث في دين الله ما ليس منه.
أولاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في سببه: وذلك بأن يفعل الإنسان عبادة لسبب لم يجعله الله تعالى سبباً مثل: أن يصلي ركعتين كلما دخل بيته ويتخذها سنة، فهذا مردود.
مع أن الصلاة أصلها مشروع، لكن لما قرنها بسبب لم يكن سبباً شرعياً صارت مردودة.
مثال آخر: لو أن أحداً أحدث عيداً لانتصار المسلمين في بدر، فإنه يرد عليه، لأنه ربطه بسبب لم يجعله الله ورسوله سبباً.
ثانياً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الجنس، فلو تعبّد لله بعبادة لم يشرع جنسها فهي غير مقبولة،مثال ذلك: لو أن أحداً ضحى بفرس،فإن ذلك مردود عليه ولا يقبل منه، لأنه مخالف للشريعة في الجنس، إذ إن الأضاحي إنما تكون من بهيمة الأنعام وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
أما لو ذبح فرساً ليتصدق بلحمها فهذا جائز، لأنه لم يتقرب إلى الله بذبحه وإنما ذبحه ليتصدق بلحمه.
ثالثاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في القدر: فلو تعبد شخص لله عزّ وجل بقدر زائد على الشريعة لم يقبل منه، ومثال ذلك: رجل توضأ أربع مرات أي غسل كل عضو أربع مرات،فالرابعة لا تقبل، لأنها زائدة على ما جاءت به الشريعة، بل قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً وقال: مَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ[61] .
رابعاً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الكيفية: فلو عمل شخص عملاً، يتعبد به لله وخالف الشريعة في كيفيته، لم يقبل منه، وعمله مردود عليه.
ومثاله: لو أن رجلاً صلى وسجد قبل أن يركع، فصلاته باطلة مردودة، لأنها لم توافق الشريعة في الكيفية.
وكذلك لو توضأ منكساً بأن بدأ بالرجل ثم الرأس ثم اليد ثم الوجه فوضوؤه باطل، لأنه مخالف للشريعة في الكيفية.
خامساً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في الزمان: فلو صلى الصلاة قبل دخول وقتها، فالصلاة غير مقبولة لأنها في زمن غير ما حدده الشرع.
ولو ضحى قبل أن يصلي صلاة العيد لم تقبل لأنها لم توافق الشرع في الزمان.
ولو اعتكف في غير زمنه فإنه ليس بمشروع لكنه جائز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ عمر ابن الخطاب رضي الله عنه على الاعتكاف في المسجد الحرام حين نذره.
ولو أن أحداً أخّر العبادة المؤقتة عن وقتها بلا عذر كأن صلى الفجر بعد طلوع الشمس غير معذور، فصلاته مردودة، لأنه عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله.
سادساً: أن يكون العمل موافقاً للشريعة في المكان: فلو أن أحداً اعتكف في غير المساجد بأن يكون قد اعتكف في المدرسة أو في البيت، فإن اعتكافه لا يصح لأنه لم يوافق الشرع في مكان الاعتكاف،فالاعتكاف محله المساجد.
فانتبه لهذه الأصول الستة وطبق عليها كل ما يرد عليك.
وهذه أمثلة على جملة من الأمور المردودة لأنها مخالفة لأمر الله ورسوله.
المثال الأول:من باع أو اشترى بعد الأذان الثاني يوم الجمعة وهو ممن تجب عليه الجمعة فعقده باطل، لأنه مخالف لأمر الله ورسوله.
فلو وقع هذا وجب رد البيع، فيرد الثمن إلى المشتري وترد السلعة إلى البائع، ولهذا لما أُُخبِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن التمر الجيد يؤخذ منه الصاع بصاعين والصاعين بثلاثة قال: رده، أي رد البيع لأنه على خلاف أمر الله ورسوله.
المثال الثاني:لو تزوج بلا ولي فالزواج باطل،لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لاَ نِكَاحَ إِلاَّ بِوَلِيّ [62] .
المثال الثالث: لو طلق رجل امرأته وهي حائض فهل يقع الطلاق أو لا يقع؟.
والجواب فيه خلاف بين العلماء،ولما ذُكِر للإمام أحمد رحمه الله القول بأنه لا يقع الطلاق في الحيض قال: هذا قول سوء.
وهذا قول الإمام أحمد -رحمه الله- وناهيك به علماً في الحديث والفقه، وقد أنكر هذا القول .
وكذلك ينكرون القول بعدم وقع الطلاق في الحيض، ويرون أن الطلاق في الحيض يقع ويحسب طلقة.
لكن هناك من يقول: إنه لا يقع كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- والمسألة خلافية، لكني ذكرتها حتى لا تتهاونوا في إفتاء الناس بعدم وقوع الطلاق في الحيض، بل الزموهم به لأنهم التزموه،كما ألزم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس بالطلاق الثلاث لما التزموه، مع أن طلاق ثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر الثلاث واحدة، لكن لما تجرأ الناس على المحرم ألزمهم به رضي الله عنه وقال: لا يمكن أن ترجع إلى زوجتك، فأنت الذي ألزمت نفسك.
قلت هذا لأن الناس الآن تلاعبوا، حيث يأتيك رجل عامي ويقول:إنه طلق زوجته في الحيض من عشر سنين، فتقول له: فإنه قد وقع، فيقول لك: إنه طلاق في الحيض فيكون بدعياً،يقول هذا وهو عامي لايعرف الكوع من الكرسوع لكن لأن له هوى.
فهل يمكن أن نفتي مثل هذا ونقول له:طلاقك لم يقع؟!
الجواب: لا يمكن،لأنه أمامنا مسؤولية يوم القيامة،بل نقول: ألزمت نفسك فلزمك،أرأيت لو أنه حين انتهت عدتها من تلك الطلقة وتزوجها رجل آخر فهل تأتي إليه وتقول:المرأة امرأتي؟!!.
الجواب: لا يقول هذا،فإذا كان هو الذي ألزم نفسه بذلك فكيف نفتح له المجال.
على كل حال؛الطلاق في الحيض أكثر العلماء يقولون إنه يقع،والذين يقولون ليس بواقع قال الإمام أحمد عن قولهم:إنه قول سوء، يعني: لا ينبغي أن يؤخذ به.
المثال الرابع:رجل باع أوقية ذهب بأوقية ونصف،فهذا البيع باطل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل سواء بسواء[63].
المثال الخامس:رجل صلى في ثوب مغصوب فجمهور العلماء يقولون:تصح صلاته،لأن النهي ليس عن الصلاة،وإنما النهي عن الثوب المغصوب سواء صليت أو لم تصل،فالنهي هنا لا يعود إلى الصلاة،والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: لا تصلوا في الثوب المغصوب،بل نهى عن الغصب وحرمه ولم يتعرض للصلاة.
المثال السادس:رجل صلى نفلاً بغير سبب في أوقات النهي،فعمله هذا مردود لأنه منهي عنه لنفسه.
المثال السابع:صام رجل عيد الفطر،فصومه هذا مردود لأنه منهي عنه لنفسه.
المثال الثامن: توضأ رجل بماء مغصوب، فإنه يصح لأن النّهي عن غصب الماء لا عن الوضوء بالماء المغصوب.
فإذا ورد النهي عن نفس العبادة فهي غير صحيحة، وإذا كان النهي عاماً فإنه لا يتعلق بصحة العبادة.
المثال التاسع: رجل غش إنساناً بأن خدعه في البيع فالبيع صحيح، لأنّ النّهي عن الغش، ولذلك إذا قبل المغشوش بهذا البيع صح البيع، قال النبي صلى الله عليه وسلم : لاَ تَلَقُّوا الجَلَبَ والجلب: هو الذي يأتي به الأعراب إلى البلد من المواشي والأطعمة وغير ذلك فَمَنْ تَلَقَّى فَاشْتَرَى مِنْهُ، فَإِذَا أَتَى سَيِّدُهُ السُّوْقَ فَهُوَ بِالخَيَار[64] ولم يقل: فإن الشراء باطل، بل صحح الشراء وجعل الخيار لهذا المتلقى منه. وهو المغشوش المخدوع.
إذاً فرقٌ أن ينصبَّ النّهي عن العمل نفسه أو عن أشياء خارجة عنه، فإذا كان عن العمل نفسه فلا شك أنه مردود لأنك لو صححته لكان في ذلك محادّة لله ورسوله، أما إذا كان عن أمر خارج فالعمل باق على الصحة،والإثم في العمل الذي فعلته وهو محرم .
المثال العاشر: رجل حج بمال مغصوب بأن غصب بعيراً وحج عليها، فالحج صحيح، هذا هو قول الجمهور وهو الصحيح، لكنه آثم بغصب هذه الناقة مثلاً - أو السيارة - لأن هذا خارج عن العبادة، إذ قد يحج الإنسان بدون رحل .
وقال بعضهم: لا يصح الحج، وأنشد:
إذا حججتَ بمالٍ أصلُهُ سُحْتٌ ضفما حججتَ ولكنْ حجَّتِ العيرُ
رواية مسلم: مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ منطوق الحديث: أنه إذا لم يكن عليه أمر الله ورسوله فهو مردود، وهذا في العبادات لا شك فيه، لأن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل علىمشروعيتها.
فلو أن رجلاً تعبد لله عزّ وجل بشيءٍ وأنكر عليه إنسان، فقال: ما الدليل على أنه حرام؟ فالقول قول المنكر فيقول: الدليل: هو أن الأصل في العبادات المنع والحظر حتى يقوم دليل على أنها مشروعة.
أماغير العبادات فالأصل فيها الحل، سواء من الأعيان، أو من الأعمال فإن الأصل فيها الحل.
مثال الأعيان: رجل صاد طيراً ليأكله، فأُنكر عليه، فقال: ما الدليل على التحريم؟ فالقول قوله هو، لأن الأصل الحل كما قال الله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً )(البقرة: الآية29) .
ومثال الأعمال:غير العبادات الأصل فيها الحل، مثال ذلك: رجل عمل عملاً في بيته، أو في سيارته، أو في لباسه أو في أي شيء من أمور دنياه فأنكر عليه رجل آخر فقال:أين الدليل على التحريم؟ فالقول قول الفاعل لأن الأصل الحل.
فهاتان قاعدتان مهمتان مفيدتان.
فعليه فنقول: الأقسام ثلاثة:
الأول: ما علمنا أن الشرع شرع من العبادات، فيكون مشروعاً.
الثاني: ما علمنا أن الشرع نهى عنه، فهذا يكون ممنوعاً.
الثالث: ما لم نعلم عنه من العبادات، فهو ممنوع.
أما في المعاملات والأعيان: فنقول هي ثلاثة أقسام أيضاً:
الأول: ما علمنا أن الشرع أذن فيه، فهو مباح، مثل أكل النبي صلى الله عليه وسلم من حمر الوحش[65] .
الثاني: ما علمنا أن الشرع نهى عنه كذات الناب من السباع، فهذا ممنوع.
الثالث: ما لم نعلم عنه، فهذا مباح، لأن الأصل في غير العبادات الإباحة.
[59] سبق تخريجه صفحة (13)
[60] أخرجه مسلم ، كتاب الآداب، باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء (2132).
[61] -أخرجه الإمام أحمد- في مسند المكثرين، (6684) ، والنسائي – كتاب : الطهارة، باب الاعتداء في الوضوء، (140، وابن ماجه، كتاب: الطهارة وسننها، باب: ما جاء في القصد في الوضوء وكراهة التعدي فيه، (422)
[62] - أخرجه أبو داود- كتاب: النكاح، باب: في الولي، (2083)، وابن ماجه - كتاب: النكاح، باب: لا نكاح إلا بولي، (1881)، والترمذي – كتاب: النكاح، باب: ما جاء في استئمار البكر والثيب، (1108).
[63] - أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة، (2176)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب الربا، (1584) (75)
[64] أخرجه مسلم، كتاب: البيوع، باب: تحريم تلقي الجلب، (1519) (17)
[65] أخرجه مسلم كتاب: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، باب: تحريم أكل لحم الحمر الإنسية، (1941)،(37) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:34 | |
| الحديث السادس
عَنْ أَبِيْ عَبْدِ اللهِ النُّعْمَانِ بْنِ بِشِيْر رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: (إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُوْرٌ مُشْتَبِهَات لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاس،ِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرأَ لِدِيْنِهِ وعِرْضِه، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ. أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً . أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وإذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهيَ القَلْبُ) [66]رواه البخاري ومسلم .
الشرح
قوله: إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ في هذا الحديث تقسيم للأحكام إلى ثلاثة أقسام:
.1حلال بيّن كلٌّ يعرفه. كالثمر، والبر، واللباس غير المحرم وأشياء ليس لها حصر.
.2 حرامٌ بيّن كلٌّ يعرفه. كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر وما أشبه ذلك.
.3 مشتبه لا يعرف هل هو حلال أوحرام؟ وسبب الاشتباه فيها إما: الاشتباه في الدليل، وإما الاشتباه في انطباق الدليل على المسألة، فتارةً يكون الاشتباه في الحكم، وتارةً يكون في محل الحكم.
* الاشتباه في الدليل: بأن يكون الحديث:
أولاً: هل صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يصحّ؟
ثانياً: هل يدل على هذا الحكم أو لا يدل؟
وهذا يقع كثيراً، فما أكثر ما يُشكِلُ الحديث: هل ثبت أم لم يثبت؟ وهل يدل على هذا أو لا يدل؟
* وأما الاشتباه في محل الحكم: فهل ينطبق هذا الحديث على هذه المسألة بعينها أو لا ينطبق؟
فالأول عند الأصوليين يسمى تخريج المناط، والثاني يسمى تحقيق المناط.
لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ يعني هذه المشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ويعلمهن كثير، فكثير لا يعلم وكثير يعلم، ولم يقل : لايعلمهن أكثر الناس، فلو قال:لا يعلمهن أكثر الناس لصار الذين يعلمون قليلاً.
إذاً فقوله لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ إما لقلة علمهم، وإما لقلة فهمهم، وإما لتقصيرهم في المعرفة.
فَمَن اِتَّقَى الشُّبُهَاتِ أي تجنبها.
فَقَدِ اِسْتَبْرَأَ أي أخذ البراءة.
لِدِيْنِهِ فيما بينه وبين الله تعالى.
وَعِرْضِهِ فيما بينه وبين الناس، لأن الأمور المشتبهة إذا ارتكبها الإنسان صار عرضة للناس يتكلمون في عرضه بقولهم: هذا رجل يفعل كذا ويفعل كذا، وكذلك فيما بينه وبين الله تعالى.
وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فَي الحَرَامِ هذه جملة شرطية.
وَمَنْ وَقَعَ فَي الشُّبُهَاتِ أي فعلها وَقَعَ في الحَرَامِ هذا الجملة تحتمل معنيين:
الأول:أن ممارسة المشتبهات حرام.
الثاني:أنه ذريعة إلى الوقوع في المحرم،وبالنظر في المثال الذي ضربه صلى الله عليه وسلم يتضح لنا أي المعنيين أصح.
والمثال المضروب: كَالرَّاعِي أي راعي الإبل أو البقر أو الغنم.
يَرْعَى حَوْلَ الِحمَى أي حول المكان المحمي،لأنه قد يُتخذ مكانٌ يُحمَى فلا يُرعَى فيه إما بحق أو بغير حق،والراعي حول هذه القطعة يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ أي يقرب أن يقع فيه،لأن البهائم إذا رأت هذه الأرض المحمية مخضرة مملوءة من العشب فسوف تدخل هذه القطعة المحمية،ويصعب منعها، كذلك المشتبهات إذا حام حولها العبد فإنه يصعب عليه أن يمنع نفسه عنها.
وبهذا المثال يقرب أن معنى قوله مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ أي أوشك أن يقع في الحرام، لأن المثال يوضح المعنى.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : أَلاَ أداة استفتاح،فائدتها:التنبيه على ما سيأتي.
وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى أي كل ملك له حمى،والنبي صلى الله عليه وسلم لايريد أن يبين حكم حمى الملك:هل هو حلال أو هو محرم؟لأن من الحمى ما يكون حلالاً،وما يكون حراماً،فالمراد بالحمى في الحديث الواقع،ومسألة الحمى على نوعين:
.1إذا حماه لنفسه وبهائمه فهو حرام.
.2 إذا حماه لدواب المسلمين كإبل الصدقة وإبل الجهاد فهو حلال،لأنه لم يختصه لنفسه،فرسول الله قال: المُسْلِمُونَ شُرَكَاْءُ فِي ثَلاثَة: فِي الكَلأِ وَالمَاءِ وَالنَّارِ [67] رواه أبو داود والإمام أحمد.
أَلاَ وإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارمُهُ هذه جملة مؤكدة بـ (إن) وأداة الاستفتاح (ألا) والمعنى:ألا وإن حمى الله محارم الله،فإياك أن تقربها،لأن محارم الله كالأرض المحمية للملك لا يدخلها أحد.
أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةٌ هذه أيضاً جملة مؤكدةبـ (ألا)و(إنَّ) والمعنى:ألا وإن في جسد الإنسان مضغة،أي قطعة لحم بقدر ما يمضغه الإنسان عند الأكل،وهي بمقدار الشيء الصغير.
إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ رتب النبي صلى الله عليه وسلم الجزاء على الشرط،فمتى صلح القلب صلح الجسد،وإذا فسدت فسد الجسد كله.
وقد مثل بعض العلماء هذا بالملك،إذا صلح صلُحت رعيته،وإذا فسد فسدت.
لكن نظر فيه العلماء المحققون وقالوا:هذا المثال لا يستقيم،لأن الملك ربما يأمر ولا يُطاع،والقلب إذا أمر الجوارح أطاعته ولابد،فهو أبلغ من أن يقول: كالملك يأمر الرعية،فإذا صلح القلب فلابد أن يصلح الجسد، وإذا فسد القلب فلابد أن يفسد الجسد.
وهذا الحديث في الحقيقة حديث عظيم،لو تكلم الإنسان عنه لبلغ صفحات لكن نشير إن شاء الله إلى جوامع الفوائد في هذا الحديث.
فوائد هذا الحديث:
.1أن الأشياء تنقسم إلى ثلاثة أقسام: حلال بيّن، حرام بيّن،مشتبه، وحكم كل نوع ومثاله أن نقول:
* الحلال البين لا يلام أحد على فعله، ومثاله التمتع بما أحل الله من الحبوب والثمار،فهذا حلال بين ولا معارض له.
* الحرام البيّن وهذا يلام كل إنسان على فعله،ومثاله كالخمر والميتة والخنزير وما أشبه ذلك،فهذا حكمه ظاهر معروف.
* وهناك أمور مشتبهة: وهذه محل الخلاف بين الناس،فتجد الناس يختلفون فيها فمنهم من يحرم،ومنهم من يحلل،ومنهم من يتوقف،ومنهم من يفصّل.
مثال المشتبه:شرب الدخان كان من المشتبه في أول ظهوره،لكن تبين الآن بعد تقدم الطب، وبعد أن درس الناس حال هذا الدخان قطعاً بأنه حرام،ولا إشكال عندنا في ذلك، وعلى هذا فالدخان عند أول ظهوره كان من الأمور المشتبهة ولم يكن من الأمور البينة،ثم تحقق تحريمه والمنع منه.
.2أسباب الاشتباه أربعة:
.1قلة العلم: فقلة العلم توجب الاشتباه،لأن واسع العلم يعرف أشياء لا يعرفها الآخرون.
.2قلة الفهم: أي ضعف الفهم،وذلك بأن يكون صاحب علمٍ واسعٍ كثير، ولكنه لا يفهم،فهذا تشتبه عليه الأمور.
.3التقصير في التدبر: بأن لا يتعب نفسه في التدبر والبحث ومعرفة المعاني بحجة عدم لزوم ذلك.
.4وهو أعظمها: سوء القصد: بأن لا يقصد الإنسان إلا نصر قوله فقط بقطع النظر عن كونه صواباً أو خطأً، فمن هذه نيته فإنه يحرم الوصول إلى العلم،نسأل الله العافية،لأنه يقصد من العلم اتباع الهوى.
وهذا الاشتباه لا يكون على جميع الناس بدليلين: أحدهما من النص وهو قوله صلى الله عليه وسلم : لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ يعني كثيراً يعلمهن،والثاني من المعنى فلو كانت النصوص مشتبهة على جميع الناس، لم يكن القرآن بياناً ولبقي شيء من الشريعة مجهولاً،وهذا متعذر وممتنع.
.3الثالثة من فوائد الحديث حكمة الله عزّ وجل في ذكر المشتبهات حتى يتبين من كان حريصاً على طلب العلم ومن ليس بحريص.
.4الرابعة من فوائد الحديث:أنه لا يمكن أن يكون في الشريعة مالا يعلمه الناس كلهم،لقوله: لاَ يعْلَمُهُنَّ كَثِيْرٌ مِنَ النَّاسِ .
.5الحث على اتقاء الشبهات، لكن هذا مشروط بما إذا قام الدليل علىالشبهة،أما إذا لم يقم الدليل على وجود شبهة اتقاء الشبهات كان ذلك وسواساً وتعمقاً، لكن إذا وجد ما يوجب الاشتباه فإن الإنسان مأمور بالورع وترك المشتبه، أما مالا أصل له فإن تركه تعمّق.
مثال ذلك: ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنه أن قوماً أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا:يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سَمُّوْا أَنْتُمْ وَكُلُوا قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر[68]
فهنا هل نتّقي هذا اللحم لأنه يُخشى أنهم لم يذكروا اسم الله عليه؟
والجواب: لا نتقيه، لأنه ليس هناك ما يوجب الاتقاء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : سَمُّوْا أَنْتُمْ وَكُلُوا فكأن في هذا نوعاً من اللوم عليهم، كأنه عليه الصلاة والسلام يقول: ليس لكم شأن فيما يفعله غيركم، بل الشأن فيما تفعلونه أنتم، فسمّوا أنتم وكلوا.
ومن هذا ما لو قدّم إليك يهودي أو نصراني ذبيحة ذبحها، فلا تسأل أذبحتها على طريقة إسلاميةأو لا، لأن هذا السؤال لا وجه له، وهو من التعمّق.
ومن ذلك أيضاً: أن يقع على ثوب الإنسان أثر ولا يدري أنجاسة هو أم لا؟ فهل يتقي هذا الثوب أو لا يتقيه؟
الجواب: ينظر: إذا كان هناك احتمال أن تكون نجاسة فإنه يتجنبه، وكلما قوي الاحتمال قوي طلب الاجتناب، وإذا لم يكن احتمال فلا يلتفت إليها، ولهذا قطع النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله حين سُئل عن الرجل يشكل عليه أحدث أم لا وهو في الصلاة فقال: لاَ يَنْصَرِفَ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتَاً أَوْ يجِدَ رِيْحَاً [69] .
فالقاعدة: أنه إذا وجد احتمال الاشتباه فهنا إن قوي قوي تركه، وإن ضعف ضعف تركه، ومتى لم يوجد احتمال أصلاً فإن تركه من التعمّق في الدين المنهي عنه.
.6أن الواقع في الشبهات واقع في الحرام، لقوله: مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ[70].
.7حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك بضرب الأمثال المحسوسة لتتبين بها المعاني المعقولة، وهذا هو طريقة القرآن الكريم،قال الله تعالى ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت:43)
فمن حسن التعليم أن المعلم يقرب الأشياء المعقولة بالأشياء المحسوسة، لقوله: كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيْهِ .
.8هل يؤخذ من قوله: يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى إقراره بالحمى؟
والجواب: أن هذا من باب الإخبار والوقوع،ولايدل على حكم شرعي. والنبي صلى الله عليه وسلم قد يذكر الأشياء لوقوعها لا لبيان حكمها.
ولهذا أمثلة أخرى:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: لَتَركبُنّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ [71] فلا يعني ذلك أن ركوبنا سنن من كان قبلنا جائز، بل هو إخبار عن الواقع.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الظعينة أي المرأة تسير من كذا إلى كذا لا تخشى إلا الله، فلا يعني هذا أنه يجوز لها أن تسافر بلا محرم، لكن هذا ضرب مثل.
إذاً نقول: هذا الحديث لا يدل على جواز الحمى لأنه ضرب مثل لواقع. ولكن لا بأس أن نقول الحمى نوعان:
الأول: حمى لمصالح المسلمين، فهذا جائز
الثاني: حمى يختصّ به الحامي، فهذا حرام، لأنه ليس له أن يختص فيما كان عاماً.
- مثال الأول: أن تحمي هذه الأرض من أجل أن يُركز فيها أنابيب لإخراج الماء، فهذا جائز بلا شك، أو تُحَمى أرض خصبة لدواب المسلمين، كدواب الزكاة والخيل للجهاد في سبيل الله وما أشبه ذلك.
- مثال الثاني: إذا حماه لنفسه.
.9ومن فوائد هذا الحديث: سد الذرائع، أي أن كل ذريعة توصل إلى محرم يجب أن تغلق لئلا يقع في المحرّم. وسد الذرائع دليل شرعي، فقد جاءت به الشريعة، ومن ذلك قول الله تعالى(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(الأنعام: من الآية108)
فنهى عن سبّ آلهة المشركين لأنها ذريعة إلى سبّ الله تعالى، مع أن سبّ آلهة المشركين سبٌّ بحق، وسب الله تعالى عدوٌ بغير علم.
.10أن من عادة الملوك أن يحموا، لقوله: أَلاَ وَإِنَّ لَكُلِّ مَلِكٍ حِمىً وقد سبق حكم ا لحمى آنفاً.
.11تأكيد الجمل بأنواع المؤكدات إذا دعت الحاجة إلى هذا، فإذا قال قائل: إن التأكيد فيه تطويل، فنقول: التوكيد تطويل، ولكن إذا دعت الحاجة صار من البلاغة، لقوله: ألا. .. ألا .
.12أن المدار في الصلاح والفساد على القلب، إذا صلح صلح الجسد كلّه، وإذا فسد فسد الجسد كله.
ويتفرّع علىهذه الفائدة: أنه يجب العناية بالقلب أكثر من العناية بعمل الجوارح، لأن القلب عليه مدار الأعمال، والقلب هو الذي يُمتحن عليه الإنسان يوم القيامة، كما قال الله تعالى (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) [العاديات:9-10] وقال تعالى (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ* يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) [الطارق:8-9[
فطهّر قلبك من الشرك والبدع والحقد على المسلمين والبغضاء، وغير ذلك من الأخلاق أو العقائد المنافية للشريعة، فإن القلب هو الأصل.
.13في الحديث ردٌّ على العصاة الذين إذا نهوا عن المعاصي قالوا: التقوى هاهنا وضرب أحدهم على صدره، فاستدل بحق على باطل، لأن الذي قال: التَّقْوَى هَاهُنَا[72] هو النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه في الحديث: إذا اتقى ما هاهنا اتّقت الجوارح، لكن هذا يقول: التقوى هاهنا يعني أنه سيعصي الله،والتقوى تكون في القلب.
والجواب عن هذا التشبيه والتلبيس سهل جداً بأن نقول:
لو صلح ما هاهنا، صلح ما هناك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ .
.14أن تدبير أفعال الإنسان عائد إلى القلب، لقوله: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ،وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ.
وهل في هذا دليل على أن العقل في القلب؟
والجواب: نعم، فيه إشارة إلى أن العقل في القلب، وأن المدبر هو القلب مع أن القرآن شاهد بهذا.
قال الله تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)
ولكن كيف تعلقه بالقلب؟
الجواب: هذا شيء لا يُعلم، إنما نحن نؤمن بأن العقل في القلب كما جاء في القرآن، لكننا لا نعلم كيف ارتباطه به،فلا يرد علينا لو رُكِب قلب كافر برجل مسلم، أيكون هذا المسلم كافراً أولا، لأننا لا ندري كيف تعلق العقل بالقلب والله أعلم.
[66] أخرجه البخاري كتاب: الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه، (52)، ومسلم – كتاب: المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات، (1599)، (107).
[67] أخرجه أبو داود كتاب: البيوع، أبواب الإجارة، باب: في تفسير الجائحة، (3477)، وابن ماجه، كتاب الرهون، باب المسلمون شركاء في ثلاث، (2472) والإمام أحمد (5/364)، والبيهقي في سننه الكبرى (6/150) ح (11612) (11613)
[68] أخرجه البخاري كتاب البيوع، باب: من لم ير الوساوس ونحوها من المشتبهات، (2057)
[69] أخرجه البخاري كتاب: الوضوء، باب: من لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، (137)، ومسلم – كتاب: الحيض، باب: الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، (3619، (98)
[70] سبق تخريجه صفحة (105)
[71] أخرجه البخاري كتاب: قصص الأنبياء، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، (3456)، ومسلم- كتاب: العلم، باب: اتباع سنن اليهود والنصارى، (2669)، (6)
[72] أخرجه مسلم كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، (2564)، (32) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:34 | |
| الحديث السابع عَنْ أَبِيْ رُقَيَّةَ تَمِيْم بْنِ أَوْسٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: )الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ قُلْنَا: لِمَنْ يَارَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: للهِ،ولكتابه، ولِرَسُوْلِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ، وَعَامَّتِهِمْ( [73] رواه مسلم
الشرح
قوله: عَنْ أَبِيْ رُقَيَّةَ هذه كنية بأنثى، والغالب أن الكنية تكون بذكر، لكن قد تكون بأنثى لا سيما إذا اشتهر، وقد تكون بغير الإنسان كأبي هريرة مثلاً، فأبو هريرة رضي الله عنه اشتهر بهذه الكنية من أجل أنه كان معه هرة ألفها وألفته فكنّي أبا هريرة. الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ الدين: مبتدأ والنصيحة خبر، وكلٌّ من المبتدأ والخبر معرفة. وعلماء البلاغة يقولون: إذا كان المبتدأ معرفة والخبر معرفة كان ذلك من طرق الحصر.
فقوله: الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ مثل قوله: ما الدين إلا النصيحة، فإذا كان طرفا الجملة معرفتين كان ذلك من باب الحصر.
وقوله: الدِّيْنُ يعني بذلك دين العمل، لأن الدين ينقسم إلى قسمين:دين عمل ودين جزاء. فقوله تعالى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة:4)
المراد به: دين الجزاء، وقوله تعالى (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً )(المائدة الآية3) المراد به: دين العمل.
وقوله هنا: الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ المراد به دين العمل، والنصيحة بمعنى إخلاص الشيء.
وأبهم النبي صلى الله عليه وسلم لمن تكون النصيحة من أجل أن يستفهم الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك، لأن وقوع الشيء مجملاً ثم مفصلاً من أسباب رسوخ العلم،لأنه إذا أتى مجملاً تطلعت النفس إلى بيان هذا المجمل، فيأتي البيان والنفس متطلعة إلى ذلك متشوفة له،فيرسخ في الذهن أكثر مما لوجاء البيان من أول مرة.
و في بعض ألفاظه: الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ ثَلاثَاً يعني قالها ثلاثاً الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة
قُلْنَا:لِمَنْ يَارَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: للهِ،ولكتابه،ولِرَسُوْلِهِ، وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْنَ، وَعَامَّتِهِمْ
* النصيحة لله تتضمن أمرين:
الأول:إخلاص العبادة له.
الثاني: الشهادة له بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته.
* والنصيحة لكتابه تتضمن أموراً منها:
الأول: الذبّ عنه، بأن يذب الإنسان عنه تحريف المبطلين، ويبيّن بطلان تحريف من حرّف.
الثاني: تصديق خبره تصديقاً جازماً لا مرية فيه، فلو كذب خبراً من أخبار الكتاب لم يكن ناصحاً، ومن شك فيه وتردد لم يكن ناصحاً.
الثالث: امتثال أوامره فما ورد في كتاب الله من أمر فامتثله، فإن لم تمتثل لم تكن ناصحاً له.
الرابع: اجتناب ما نهى عنه، فإن لم تفعل لم تكن ناصحاً.
الخامس: أن تؤمن بأن ما تضمنه من الأحكام هو خير الأحكام، وأنه لا حكم أحسن من أحكام القرآن الكريم.
السادس: أن تؤمن بأن هذا القرآن كلام الله عزّ وجل حروفه ومعناه، تكلم به حقيقة، وتلقاه جبريل من الله عزّ وجل ونزل به على قلب النبي صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
* والنصيحة لرسوله تكون بأمور منها:
الأول: تجريد المتابعة له، وأن لا تتبع غيره،لقول الله تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21)
الثاني: الإيمان بأنه رسول الله حقاً، لم يَكذِب، ولم يُكذَب، فهو رسول صادق مصدوق.
الثالث: أن تؤمن بكل ما أخبر به من الأخبار الماضية والحاضرة والمستقبلة.
الرابع: أن تمتثل أمره.
الخامس: أن تجتنب نهيه.
السادس: أن تذبّ عن شريعته.
السابع: أن تعتقد أن ما جاء عن رسول الله فهو كما جاء عن الله تعالى في لزوم العمل به، لأن ما ثبت في السنة فهو كالذي جاء في القرآن . قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )(النساء: الآية59) وقال تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)(النساء: الآية80) وقال تعالى ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (الحشر: الآية7).
الثامن: نصرة النبي صلى الله عليه وسلم إن كان حياً فمعه وإلىجانبه، وإن كان ميتاً فنصرة سنته صلى الله عليه وسلم.
وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِيْن أئمة جمع إمام، والإمام: القدوة كما قال تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ)(النحل: الآية120) أي قدوة، ومنه قول عباد الرحمن (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً)(الفرقان: الآية74)
وأئمة المسلمين صنفان من الناس:
الأول: العلماء، والمراد بهم العلماء الربانيون الذين ورثوا النبي صلى الله عليه وسلم علماً وعبادة وأخلاقاً ودعوة، وهؤلاء هم أولو الأمر حقيقة، لأن هؤلاء يباشرون العامة، ويباشرون الأمراء، ويبينون دين الله ويدعون إليه
الصنف الثاني: من أئمة المسلمين: الأمراء المنفذون لشريعة الله، ولهذا نقول: العلماء مبينون، والأمراء منفذون يجب عليهم أن ينفذوا شريعة الله عزّ وجل في أنفسهم وفي عباد الله.
* والنصيحة للعلماء تكون بأمورٍ منها:
الأول: محبتهم، لأنك إذا لم تحب أحداً فإنك لن تتأسّى به.
الثاني: معونتهم ومساعدتهم في بيان الحق، فتنشر كتبهم بالوسائل الإعلامية المتنوعة التي تختلف في كل زمان ومكان.
الثالث: الذبّ عن أعراضهم، بمعنى أن لا تقرّ أحداً على غيبتهم والوقوع في أعراضهم،وإذا نسب إلى أحدٍ من العلماء الربانيين شيء يُستنكر فعليك أن تتخذ هذه المراحل:
المرحلة الأولى: أن تتثبت من نسبتهِ إليه، فكم من أشياء نسبت إلى عالم وهي كذب، فلابد أن تتأكد، فإذا تأكدت من نسبة الكلام إليه فانتقل إلى المرحلة الثانية وهي:
أن تتأمل هل هذا محل انتقاد أم لا؟ لأنه قد يبدو للإنسان في أول وهلة أن القول منتقد، وعند التأمل يرى أنه حق، فلابد أن تتأمل حتى تنظر هل هو منتقد أو لا؟
المرحلة الثالثة: إذا تبيّن أنه ليس بمنتقد فالواجب أن تذبّ عنه وتنشر هذا بين الناس، وتبين أن ما قاله هذا العالم فهو حق وإن خالف ما عليه الناس.
المرحلة الرابعة: إذا تبين لك حسب رأيك أن ما نسب إلى العالم وصحت نسبته إليه ليس بحق،فالواجب أن تتصل بهذا العالم بأدب ووقار،وتقول: سمعت عنك كذا وكذا،وأحب أن تبين لي وجه ذلك، لأنك أعلم مني،فإذا بيّن لك هذا فلك حق المناقشة،لكن بأدب واحترام وتعظيم له بحسب مكانته وبحسب ما يليق به.
أما مايفعله بعض الجهلة الذين يأتون إلى العالم الذي رأى بخلاف مايرون، يأتون إليه بعنف وشدة،وربما نفضوا أيديهم في وجه العالم،وقالوا له:ما هذا القول الذي أحدثته؟ ما هذا القول المنكر؟ وأنت لا تخاف الله ، وبعد التأمل تجد العالم موافقاً للحديث وهم المخالفون له، وغالب ما يؤتى هؤلاء من إعجابهم بأنفسهم، وظنهم أنهم هم أهل السنة وأنهم هم الذين على طريق السلف، وهم أبعد ما يكون عن طريق السلف وعن السنة.
فالإنسان إذا أعجب بنفسه - نسأل الله السلامة - رأى غيره كالذر، فاحذر هذا.
الأمر الرابع من النصيحة للعلماء: أنك إذا رأيت منهم خطأ فلا تسكت وتقول: هذا أعلم مني، بل تناقش بأدب واحترام، لأنه أحياناً يخفى على الإنسان الحكم فينبهه من هو دونه في العلم فيتنبه وهذا من النصيحة للعلماء.
الخامس : أن تدلهم على خير ما يكون في دعوة الناس، فإذا رأيت هذا العالم محباً لنشر العلم ويتكلم في كل مكان وترى الناس يتثاقلونه ويقولون هذا أثقل علينا، كلما جلسنا قام يحدّث،فمن النصيحة لهذا العالم أن تشير عليه أن لا يتكلم إلا فيما يناسب المقام، لاتقل:إني إذا قلت ذلك منعته من نشر العلم، بل هذا في الواقع من حفظ العلم، لأن الناس إذا ملّوا سئموا من العالم ومن حديثه.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة، يعني لا يكثر الوعظ عليهم مع أن كلامه صلى الله عليه وسلم محبوب إلى النفوس لكن خشية السآمة، والإنسان يجب أن يكون مع الناس كالراعي يختار ما هو أنفع وأجدى.
* والنصيحة للأمراء تكون بأمور منها:
أولاً: اعتقاد إمامتهم وإمرتهم، فمن لم يعتقد أنهم أمراء فإنه لم ينصح لهم، لأنه إذا لم يعتقد أنهم أمراء فلن يمتثل أمرهم ولن ينتهي عما نهوا عنه، فلا بد أن تعتقد أنه إمام أو أنه أمير، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية، ومن تولى أمر المسلمين ولو بالغلبة فهو إمام،سواء كان من قريش أومن غير قريش.
ثانياً: نشر محاسنهم في الرعية، لأن ذلك يؤدي إلى محبة الناس لهم، وإذا أحبهم الناس سهل انقيادهم لأوامرهم .
وهذا عكس ما يفعله بعض الناس حيث ينشر المعايب ويخفي الحسنات، فإن هذا جورٌ وظلم.
فمثلاً يذكر خصلة واحدة مما يُعيب به على الأمراء وينسى خصالاً كثيرة مما قاموا به من الخير، وهذا هو الجور بعينه.
ثالثاً: امتثال ما أمروا به وما نهوا عنه، إلا إذا كان في معصية الله عزّ وجل لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وامتثال طاعتهم عبادة وليست مجرد سياسة، بدليل أن الله تعالى أمر بها فقال عزّ وجل ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأولي الأمر منكم) [النساء:59] فجعل ذلك من مأموراته عزّ وجل، وما أمر الله تعالى به فهو عبادة.
ولا يشترط في طاعتهم ألاّ يعصوا الله،فأطعهم فيما أمروا به وإن عصوا الله، لأنك مأمور بطاعتهم وإن عصوا الله في أنفسهم.
رابعاً: ستر معايبهم مهما أمكن، وجه هذا: أنه ليس من النصيحة أن تقوم بنشر معايبهم، لما في ذلك من ملئ القلوب غيظاً وحقداً وحنقاً على ولاة الأمور، وإذا امتلأت القلوب من ذلك حصل التمرّد وربما يحصل الخروج على الأمراء فيحصل بذلك من الشر والفساد ما الله به عليم.
وليس معنى قولنا: ستر المعايب أن نسكت عن المعايب، بل ننصح الأمير مباشرة إن تمكنا،وإلا فبواسطة من يتصل به من العلماء وأهل الفضل. ولهذا أنكر أسامة بن زيد رضي الله عنه على قوم يقولون: أنت لم تفعل ولم تقل لفلان ولفلان يعنون الخليفة، فقال كلاماً معناه (أتريدون أن أحدثكم بكل ما أحدث به الخليفة) فهذا لا يمكن.
فلا يمكن للإنسان أن يحدث بكل ما قال للأمير، لأنه إذا حدث بهذا فإما أن يكون الأمير نفذ ما قال، فيقول الناس: الأمير خضع وذل، وإما أن لا ينفذ فيقول الناس: عصى وتمرّد.
ولذلك من الحكمة إذا نصحت ولاة الأمور أن لا تبين ذلك للناس،لأن في ذلك ضرراً عظيماً.
خامساً: عدم الخروج عليهم، وعدم المنابذة لهم، ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في منابذتهم إلا كما قال:
أَنْ تَرَوا أي رؤية عين، أو رؤية علم متيقنة.
كُفْرَاً بَوَاحَاً أي واضحاً بيّناً.
عِنْدَكُمْ فِيْهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ [74]أي دليل قاطع.
ثم إذا جاز الخروج عليهم بهذه الشروط فهل يعني ذلك أن يخرج عليهم ؟ لأن هناك فرقاً بين جواز الخروج، وبين وجوب الخروج.
والجواب: لا نخرج حتى ولو رأينا كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان،إلا حيث يكون الخروج مصلحة،وليس من المصلحة أن تقوم فئة قليلة سلاحها قليل في وجه دولة بقوتها وسلاحها، لأن هذا يترتب عليه إراقة الدماء واستحلال الحرام دون ارتفاع المحذور الذي انتقدوا به الأمراء،كما هو مشاهد من عهد خروج الخوارج في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم إلى يومنا هذا،حيث يحصل من الشر والمفاسد ما لا يعلمه إلاربُّ العباد.
لكن بعض الناس تتوقد نار الغيرة في قلوبهم ثم يحدثون ما لا يحمد عقباه، وهذا غلط عظيم.
ثم إنا نقول: ما ميزان الكفر؟ فقد يرى البعض هذا كفراً و البعض لايراه كفراً، ولهذا قيد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله كُفْرَاً بَوَاحَاً ليس فيه احتمال،كما لو رأيته يسجد للصنم، أو سمعته يسب الله، أو رسوله أو ما أشبه ذلك.
قال: وَعَامَّتُهُمْ أي عوام المسلمين، والنصح لعامة المسلمين بأن تبدي لهم المحبة، وبشاشة الوجه، وإلقاء السلام، والنصيحة، والمساعدة ، وغير ذلك مما هو جالب للمصالح دافعٌ للمفاسد.
واعلم أن خطابك للواحد من العامة ليس كخطابك للواحد من الأمراء، وأن خطابك للمعاند ليس كخطابك للجاهل، فلكل مقام مقال، فانصح لعامة المسلمين ما استطعت.
وبهذا نعرف أن هذا الحديث على اختصاره جامع لمصالح الدنيا والآخرة.
من فوائد هذا الحديث:
.1أهمية النصيحة في هذه المواضع، وجه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها الدين فقال: الدِّيْنُ النَّصِيْحةُ
.2حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يذكر الشيء مجملاً ثم يفصّله، لقوله: الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ.
.3حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم، وأنهم لن يدعوا شيئاً يحتاج الناس إلى فهمه إلا سألوا عنه، ومن ذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدّجّال يمكث في الأرض أربعين يوماً، اليوم الأول كسنة قالوا يارسول الله: هذا اليوم الذي يبدو كسنة تكفينا فيه صلاة واحدة؟[75] فسألوا، ويتفرع على هذا : أن ما لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم من أمور الدين فلا نسأل عنه لاسيما فيما يتعلّق بأسماء الله وصفاته، ولهذا عد الإمام مالك - رحمه الله - من سأل عن كيفية الاستواء، مبتدعاً، لأنه ابتدع سؤالاً لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم .
.4 البداءة بالأهم فالأهم، حيث بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالنصيحة لله، ثم للكتاب، ثم للرسول صلى الله عليه وسلم ثم لأئمة المسلمين، ثم عامتهم.
وإنما قدم الكتاب على الرسول لأن الكتاب يبقى، والرسول يموت، على أن النصيحة للكتاب وللرسول متلازمان، فإذا نصح للكتاب نصح للرسول ، وإذا نصح للرسول نصح للكتاب.
.5 وجوب النصيحة لأئمة المسلمين، وذلك بما ذكرناه من الوجوه بالنسبة للأمراء، وبالنسبة للعلماء.
.6الإشارة إلى أن المجتمع الإسلامي لابد له من إمام، والإمامة قد تكون عامة، وقد تكون خاصة.
فإمام المسجد إمام في مسجده، ولهذا قال أهل العلم: لا يجوز أن تقام الجماعة التي لها إمام راتب بدون إذن الإمام الراتب، لأن ذلك عدوان على حقه.
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسافرين إذا كانوا ثلاثة أن يؤمّروا أحدهم[76] لئلا يكون أمرهم فوضى.
وهذا الأمير الذي يؤمّرونه تجب طاعته فيما يتعلق بأحكام السفر، لأنهم جعلوه أميراً، فإذا تأمر على قومه في السفر وقال: يا فلان قم أصلح كذا، وهو يتعلق بالسفر وجب عليه أن يطيع، وإلا فلا فائدة في الإمرة.
أما لو قال الأمير لأحد رفقائه: يا فلان قدم لي نعالي، فلا يلزمه أن يطيع، لأنهم جعلوه أميراً فيما يتعلق بأمور السفر، وهذا لا يتعلق بأمور السفر.
ولو قال لأحدهم: يا فلان جهّز لنا الغداء، فإنه يلزمه لأن هذا يتعلق بالسفر.
ولو قال لهم: الآن ننزل في هذا المكان حتى يبرد الوقت فإنه يلزمهم، وهكذا ، وعليه فلابد للأمة الإسلامية من إمام . والله الموفق .
[73] سبق تخريجه صفحة (78)
[74] - أخرجه البخاري – كتاب: الفتن، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم (( سترون بعدي أموراً تنكرونها)) ، (7555)، ومسلم – كتاب: الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية، (1709)، (42)، وفي البخاري ومسلم وردت بلفظ "عندكم من الله فيه برهان"
[75] - أخرجه مسلم – كتاب: الفتن، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، (2937)، (110)
[76] - أخرجه مسلم – كتاب: المساجد، باب: فضل الجلوس في مصلاه بعد الصبح، وفضل المساجد، (672)،(289) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:35 | |
| الحديث الثامن
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُوْلَ اللهِ قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ وَيُقِيْمُوْا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءهَمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى) [77]رواه البخاري ومسلم
الشرح
أُمِرْتُ بالبناء لما لم يسمّ فاعلهُ، لأن الفاعل معلوم و هو الله عزّ وجل، وإبهام المعلوم سائغ لغة واستعمالاً سواء: في الأمور الكونية. أو في الأمور الشرعية.
- في الأمور الكونية: قال الله عزّ وجل (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً)(النساء: الآية28) والخالق هو الله عزّ وجل.
- وفي الأمور الشرعية: كهذا الحديث: أُمِرْتُ أَنْ أُقاتِلَ وكقوله صلى الله عليه وسلم : أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاء [78]
وقوله: أُمِرْتُ أي أمرني ربي.
والأمرُ: طلب الفعل على وجه الاستعلاء، أي أن الآمر أو طالب الفعل يرى أنه في منزلة فوق منزلة المأمور، لأنه لو أمر من يساويه سمي عندهم التماساً، ولو طلب ممن فوقه سمي دعاءً وسؤالاً.
وقوله: أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ هذا المأمور به.
والمقاتلة غير القتل.
- فالمقاتلة: أن يسعى في جهاد الأعداء حتى تكون كلمة الله هي العليا.
-والقتل: أن يقتل شخصاً بعينه، ولهذا نقول: ليس كل ما جازت المقاتلة جاز القتل، فالقتل أضيق ولا يجوز إلا بشروط معروفة، والمقاتلة أوسع، قال الله تبارك وتعالى ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه) (الحجرات: الآية9) فأمر بقتالها وهي مؤمنة لايحل قتلها ولا يباح دمها لكن من أجل الإصلاح.
ولذلك أمرت الأمة أن توافق الإمام في قتال أهل البغي الذين يخرجون على الإمام بشبهة، قالوا: فإذا قرر الإمام أن يقاتلهم وجب على الرعيّة طاعته وموافقته دفعاً للشر والفساد، وهنا نقاتل مسلمين لأجل إقامة العدل وإزالة الفوضى. وقاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة ولكن لايقتلهم، بل قاتلهم حتى يذعنوا للحق . حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله (حتى) هل هي للتعليل بمعنى أن أقاتل ليشهدوا، أو هي للغاية بمعنى أقاتلهم إلى أن يشهدوا؟
والجواب: هي تحتمل أن تكون للتعليل ولكن الثاني أظهر، يعني أقاتلهم إلى أن يشهدوا.
و(حتى) تأتي للتعليل وتأتي للغاية، فقوله تعالى ( قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) (طـه:91)
فهذه للغاية ولا تصح للتعليل، لأن بقاءهم عاكفين علىالعجل لا يستلزم حضور موسى عليه السلام
وقوله عزّ وجل عن المنافقين (لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا )(المنافقون: الآية7) فحتى هنا للتعليل، يعني لا تنفقوا لأجل أن ينفضوا عن رسول الله، وليس المعنى لا تنفقوا حتى ينفضّوا، فإذا انفضّوا أنفقوا.
حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله أي حتى يشهدوا بألسنتهم وبقلوبهم، لكن من شهد بلسانه عصم دمه وماله، وقلبه إلى الله عزّ وجل.
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله أي لا معبود حقّ إلا الله عزّ وجل، فهو الذي عبادته حقّ، وما سواه فعبادته باطلة.
وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُوْلُ اللهِ محمد: هوابن عبد الله، وأبرز اسمه ولم يقل: وأني رسول الله للتفخيم والتعظيم. ورسول الله: يعني مرسله.
وَيُقِيْمُوا الصَّلاةَ أي يفعلوها قائمة وقويمة على ماجاءت به الشريعة. والصلاة هنا عامة، لكن المراد بها الخاص، وهي الصلوات الخمس، ولهذا لو تركوا النوافل فلا يقاتلون .
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ أي يعطوها مستحقّها. والزكاة: هي النصيب المفروض في الأموال الزكوية. ففي الذهب مثلاً والفضة وعروض التجارة: ربع العشر، أي واحد من أربعين. وفيما يخرج من الأرض مما فيه الزكاة: نصف العشر إذا كان يسقى بمؤونة، والعشر كاملاً إذا كان يسقى بلا مؤونة. وفي الماشية: كما هو في السُّنة.
فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أي شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة.
عَصَمُوا أي منعوا.
مِنِّي دِمَاءهَم وَأَمْوَالَهُم أي فلا يحل أن أقاتلهم وأستبيح دماءهم، ولا أن أغنم أموالهم، لأنهم دخلوا في الإسلام.
إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلامِ هذا استثناء لكنه استثناء عام، يعني: إلا أن تباح دماؤهم وأموالهم بحق الإسلام، مثل: زنا الثيّب، والقصاص وما أشبه ذلك، يعني: إلا بحق يوجبه الإسلام.
وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ تَعَالَى أي محاسبتهم على الأعمال على الله تعالى، أما النبي صلى الله عليه وسلم فليس عليه إلا البلاغ.
فهذا الحديث أصلٌ وقاعدةٌ في جواز مقاتلة الناس،وأنه لايجوز مقاتلتهم إلا بهذا السبب.
من فوائد هذا الحديث:
.1أن النبي صلى الله عليه وسلم عبد مأمور يوجه إليه الأمر كما يوجّه إلى غيره لقوله: أُمِرْتُ.
.2جواز إبهام المعلوم إذا كان المخاطب يعلمه، لقوله: أُمِرْتُ فأبهم الآمر لأن المخاطب يعلم ذلك.
.3وجوب مقاتلة الناس حتى يقوموا بهذه الأعمال.
فإذا قال قائل: لماذا لا يكون الأمر للاستحباب؟
والجواب: لا يكون للاستحباب،لأن هذا فيه استباحة محرّم، واستباحة المحرّم لاتكون إلا لإقامة واجب.
ولهذا استدل بعض الفقهاء - رحمهم الله - على وجوب الختان بأن الختان قطع شيء من الإنسان محترم، والأصل التحريم فلا يجوز قطع أي عضو أوجلدة من بدنك، فلما استبيح هذا القطع دلّ على وجوب الختان، إذ لا يستباح المحرّم إلا لأداء واجب وعلى هذا فنقول: الأمر هنا للوجوب.
فرضية الجهاد:الجهاد قد يكون فرض كفاية، وقد يكون فرض عين، ولا يمكن أن يكون فرض عين على جميع الناس لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا ) (التوبة:122)
أي القاعدون ( فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )[التوبة:122].
.4وجوب شهادة أن لا إله إلا الله بالقلب واللسان، فإن أبداها بلسانه ولاندري عما في قلبه أخذنا بظاهره ووكلنا سريرته إلى الله عزّ وجل ووجب الكفّ عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك، ولا يجوز أن نتهمه ونقول: هذا الرجل قالها كاذباً، أو خوفاً من قتل أو أسر،لأننا لا ننقب عن قلوب الناس.
.5أنه لابد أن يعتقد الإنسان أن لا معبود حق إلا الله، فلا يكفي أن يعتقد أن الله معبود بحق، لأنه إذا شهدأن الله تعالى معبود بحق لم يمنع أن غيره يعبد بحق أيضاً. فلا يكون التوحيد إلا بنفي وإثبات: لا إله إلا الله، نفي الألوهية عما سوى الله وإثباتها لله عزّ وجل.
.6أن المقاتلة لا ترتفع إلا بشهادة أن محمداً رسول الله، وأما الدخول في الإسلام فيكون بشهادة أن لا إله إلا الله، لكن لو شهدت طائفة أن لا إله إلا الله وأبت أن تشهد أن محمداً رسول الله فإنها تقاتل.
وشهادة أن محمداً رسول الله تستلزم: تجريد المتابعة له، وأن لايتبع من سواه، وتصديقه فيما أخبر واجتناب ماعنه نهى وزجر، وأن لايعبد الله إلا بما شرع.
.7 وجوب إقامة الصلاة، لأنه إذا لم يقمها فإنه لا يمتنع قتاله، بل قد قال الفقهاء - رحمهم الله - يُقاتَل أهل بلد تركوا الأذان والإقامة وإن صلوا، لأن الأذان والإقامة من شعائر الدين الظاهرة، فإذا قال قوم: نحن لا نؤذن ولانقيم ولكن نصلي، وجب أن يقاتلوا.
واستدلّوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قوماً أمسك حتى يطلع الفجر، فإن سمع أذاناً كفّ عن قتالهم، وإلا قاتلهم[79] .
كذلك قال الفقهاء: يقاتل أهل بلد تركوا صلاة العيد وإن لم تكن فرضاً على الأعيان كفريضة ا لصلوات الخمس.
قالوا: لأن صلاة العيد من شعائر الإسلام الظاهرة، فيقاتل أهل البلد إذا تركوا صلاتي العيدين
.8وجوب إيتاء الزكاة، لأنها جزء مما يمنع مقاتلة الناس.
ولابد أن يكون إيتاء الزكاة إلى مستحقّها، فلا يكفي أن يعطيها غنيّاً من أقاربه أو أصحابه لأن ذلك لايجزئ، لقوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة:60)
.9إطلاق الفعل على القول، لقوله: إِذَا فَعَلُوْا ذَلِكَ مع أن في جملة هذه الأشياء الشهادتين، وهما قول، ووجه ذلك: أن القول حركة اللسان،وحركة اللسان فعل، ويصح إطلاق الفعل على القول بأن يكون القول في جملة أفعال،كما في الحديث، فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من الأفعال بلا شك.
كما يطلق القول على الفعل، وهذا كثير كما في حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حين تيمّم قال بيديه هكذا وضرب بهما الأرض[80]،وهذا فعل.
.10أن الكفار تباح دماؤهم وأموالهم، لقوله: عَصَمُوا مِنِّيْ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فيقتلون، أو يؤسرون حسب ما تقتضيه الحال، وتغنم أموالهم. وهذا مما اختصّ به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد صحّ عنه أنه قال: أُعْطِيْتُ خَمْسَاً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِيْ: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مِسِيْرَةَ شَهْر، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدَاً وَطَهُوْرَاً، وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ مِنْ قَبْلِيَ ... [81]والغنائم هي أموال الكفار إذا أخذناها بالقتال. أما الأمم السابقة فلا تحل لهم الغنائم،وقد ورد أنهم يجمعونها ثم تنزل نار من السماء فتحرقها[82]
.11أنه قد يستباح الدم والمال بحق الإسلام وإن لم يكن من هذه المذكورات التي في الحديث، وقد نوقش أبو بكرٍ الصّديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة فأجاب: بأن الزكاة حق المال، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: إِلاَّ بِحَقِّ الإِسْلامِ وقال رضي الله عنه: والله لو منعوني عناقاً - أو قال: عقالاً - كانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على ذلك[83].
وأسباب إباحة القتل في الإسلام ليس هذا موضع بسطها،لكنها معلومة بالتتبّع.
.12أن حساب الخلق على الله عزّ وجل، وأنه ليس على الرسول صلى الله عليه وسلم إلا البلاغ، وكذلك ليس على من ورث الرسول إلا البلاغ، والحساب على الله عزّ وجل.
فلا تحزن أيها الداعي إلى الله إذا لم تقبل دعوتك، فإذا أدّيت ما يجب عليك فقد برئت الذمة والحساب على الله تعالى،كما قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ* إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) [الغاشية:22-23] يعني لكن من تولى وكفر (فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ*إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ) [الغاشية:24-26]
فلا تحزن أيها الداعي إلى الله إذا رد قولك، أو إذا لم يقبل لأول مرة، لأنك أديت ما يجب عليك.
ولكن اعلم أنك إذا قلت حقاً تريد به وجه الله فلابد أن يؤثر، حتى لو رد أمامك فلابد أن يؤثر،وفي قصة موسى عليه السلام عبرة للدعاة إلى الله،وذلك أنه جُمعَ له السحرة من كل وجه في مصر، واجتمعوا، وألقوا حبالهم وعصيّهم حتى كانت الأرض تمشي ثعابين، حتى إن موسى عليه السلام خاف (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) (طـه:67)
فلما اجتمعوا كلهم قال لهم (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) (طـه:61)
كلمات يسيرة، قال الله عزّ وجل (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) (طـه:62)
يعني أنهم تنازعوا فوراً، والفاء في قوله (فَتَنَازَعُوا) للسببية والترتيب والتعقيب.
فتأمل كيف أثرت هذه الكلمات من موسى عليه السلام بهؤلاء السحرة، فلابد لكلمة الحق أن تؤثر، لكن قد تؤثر فوراً وقد تتأخر. والله ا لموفق.
[77] - أخرجه البخاري – كتاب: الإيمان، باب:: فإن تابوا وأقاموا الصلاة، (25)، ومسلم – كتاب: الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، (22)،(36).
[78] - أخرجه البخاري – كتاب: الأذان، باب: السجود على سبعة أعضاء، (809)، ومسلم- كتاب: الصلاة، باب: أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة، (490)،(230)
[79] - أخرجه مسلم – كتاب: الصلاة، باب: الإمساك عن الإغارة على قوم في دار الكفر إذا سمع فيهم الأذان، (382)،(9)
[80] - أخرجه البخاري – كتاب: التيمم، باب: المتيمم هل ينفخ فيهما، (338)، ومسلم – كتاب: الحيض، باب: التيمم، (368)،(110)
[81] - أخرجه البخاري – كتاب: التيمم، باب، (325)، ومسلم – كتاب: المساجد ومواضع الصلاة، باب، (521)، (3)
[82] - أخرجه الترمذي- كتاب: تفسير القرآن، باب: من سورة الأنفال، (3085)
[83] - أخرجه البخاري- كتاب: الزكاة، باب: أخذ العناق في الصدقة، (1456)، ومسلم- كتاب الإيمان، باب: الأمر بقتالالناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويقيموا الصلاة، (20)، (32) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:36 | |
| الحديث التاسع عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَخْرٍ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ: (مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ؛ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ) [84]رواه البخاري ومسلم
الشرح
أكثر النّاس لايعرفون اسم أبي هريرة رضي الله عنه،ولهذا وقع الخلاف في اسم راوي الحديث،وأصحّ الأقوال وأقربها للصواب ما ذكره المؤلف رحمه الله أن اسمه:
عبد الرحمن بن صخر. وكنّي بأبي هريرة لأنه كان معه هرّة قد ألفها وألفته، فلمصاحبتها إيّاه كُنّي بها.
قوله: مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ النهي: طلب الكفّ على وجه الاستعلاء، يعني أن يطلب منك من هو فوقك - ولو باعتقاده - أن تكفّ، فهذا نهي.
ولهذا قال أهل أصول الفقه: النهي طلب الكفّ على وجه الاستعلاء ولو حسب دعوى الناهي، يعني وإن لم يكن عالياً على المنهي.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلى منّا حقيقة.
مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوْهُ الجملة شرطية، فـ: (ما) اسم شرط، و: (نهيتكم) فعل الشرط، و: (فاجتنبوه) جواب الشرط، وقرنت بالفاء لأنها إحدى الجمل المنظومة في قول القائل:
إسمية، طلبية، وبجامدٍ وبما وقد وبلن وبالتنفيس
والجملة التي معنا طلبية لأنها فعل أمر.
فَاجْتَنِبُوهُ أي ابتعدوا عنه، فكونوا في جانب وهو في جانب.
وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوْا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ هذه الجملة أيضاً شرطية، فعل الشرط فيها: (أمرتكم به) وجوابه: (فأتوا منه ما استطعتم) يعني افعلوا منه ما استطعتم، أي ما قدرتم عليه.
والفرق بين المنهيات والمأمورات: أن المنهيّات قال فيها: فَاجْتَنِبُوهُ ولم يقل ما استطعتم، ووجهه: أن النهي كف وكل إنسان يستطيعه، وأما المأمورات فإنها إيجاد قد يستطاع وقد لا يستطاع، ولهذا قال في الأمر: فأتُوا مِنْهُ مَا استَطَعتُمْ ويترتب على هذا فوائد نذكرها إن شاء الله تعالى في الفوائد، لكن التعبير النبوي تعبير دقيق.
فَإِنَّمَا (إن) للتوكيد، و(ما) اسم موصول بدليل قوله: (كثرة) على أنها خبر (إن) أي فإن الذي أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم. ويجوز أن تجعل (إنما) أداة حصر، ويكون المعنى: ما أهلك الذين من قبلكم إلا كثرة مسائلهم.
وقوله: الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ يشمل اليهود والنصارى وغيرهم، والمتبادر أنهم اليهود والنصارى،كما قال الله عزّ وجل (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )(المائدة: الآية5) وذلك أن الأمم السابقة قبل اليهود والنصارى لا تكاد ترد على قلوب الصحابة، فإن نظرنا إلى العموم قلنا المراد بقوله: مِنْ قَبْلِكُمْ جميع الأمم، وإن نظرنا إلى قرينة الحال قلنا المراد بهم: اليهود والنصاري.
واليهود أشدّ في كثرة المساءلة التي يهلكون بها، ولذلك لما قال لهم نبيهم موسى عليه السلام: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (البقرة: الآية67) جعلوا يسألون:ما هي؟ وما لونها؟ وما عملها ؟ .
وقوله: كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ جمع مسألة وهي: ما يُسأل عنه.
وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ يعني وأهلكهم اختلافهم، ويجوز فيها أن تكون مجرورة، أي وكثرة اختلافهم على أنبيائهم، وكلا الأمرين صحيح.
ولكن الإعراب الأول يقتضي أن مجرد الاختلاف سبب للهلاك، وأما على الاحتمال الثاني فإنه يقتضي أن سبب الهلاك هو كثرة الاختلاف.
وقوله: عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وذلك بالمعارضة والمخالفة، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم في الإمام: إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤتَمَّ بِهِ فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ[85] ولم يقل: فلا تختلفوا عنه، وهكذا في هذا الحديث قال: اختلافهم على أنبيائهم ولم يقل:عن أنبيائهم، لأن كلمة (على) تفيد أن هناك معارضة للأنبياء.
من فوائد هذا الحديث:
.1وجوب الكفّ عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، لقوله: مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ.
.2أن المنهي عنه يشمل القليل والكثير، لأنه لا يتأتّى اجتنابه إلا باجتناب قليله وكثيره، فمثلاً: نهانا عن الرّبا فيشمل قليله وكثيره.
.3أن الكفّ أهون من الفعل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في المنهيات أن تُجتنب كلّها،لأن الكفّ سهل.
فإن قال قائل:يرد على هذا إباحة الميتة والخنزير للمضطر، وإذا كان مضطراً لم يجب الاجتناب؟
فالجواب عن هذا أن نقول: إذا وجدت الضرورة ارتفع التّحريم، فلا تحريم أصلاً، ولهذا كان من قواعد أصول الفقه: (لا محرم مع الضرورة، ولا واجب مع العجز) إذاً هذا الإيراد غير وارد.
فلو قال لنا قائل: (فاجتنبوه) عام فيشمل اجتناب أكل الميتة عند الضرورة.
فنقول: لايشمل، لأنه إذا وجدت الضرورة ارتفع التحريم.
هل يجوز فعل المحرّم عند الضرورة أم لا؟
والجواب: أنه يجوز لقول الله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ) (الأنعام: الآية119) فمن اضطر إلى أكل الميتة جاز له أن يأكل منها، ومن اضطر إلى أن يأكل لحم الخنزير جاز له أن يأكل لحم الخنزير وهكذا . ومن اضطر إلى شرب الخمر جاز له شرب الخمر، ولكن الضرورة إلى شرب الخمر تصدق في صورة واحدة وهي: إذا غصّ بلقمة وليس عنده إلا خمر فإنه يشربه لدفع اللقمة، وأما شرب الخمر للعطش فلا يجوز، قال أهل العلم: لأن الخمر لايزيد العطشان إلا عطشاً فلا تندفع به الضرورة.
وإذا اضطر شخص إلى محرّم فهل له أن يزيد على قدر الضرورة؟ بمعنى: إذا حل له أكل الميتة فهل له أن يشبع، أو نقول له: اقتصر على ماتبقى به الحياة فقط؟
والجواب: ذكر بعض العلماء: أنه يجب أن يقتصر على ما تبقى به الحياة فقط، ولا يشبع. والصحيح التفصيل في هذا: فإن كان يعلم أو يغلب على ظنه أنه سيحصل على شيء مباح قريباً فليس له أن يشبع إلا إذا كان معه شيء يحفظ به اللحم إن احتاجه أكله فهنا لا حاجةللشبع، بل يكون بقدر ما تندفع به الضرورة.
* وما هي الضرورة إلى المحرّم؟
الضرورة إلى المحرم هي: أن لا يجد سوى هذا المحرّم، وأن تندفع به الضرورة،وعلى هذا فإذا كان يجد غير المحرّم فلا ضرورة، وإذا كان لاتندفع به الضرورة فلا يحلّ.
- فأكل الميتة عند الجوع إذا لم يجد غيرها تندفع به الضرورة.
- والدواء بالمحرّم لا يمكن أن يكون ضرورة لسببين:
أولاً: لأنه قد يبرأ المريض بدون دواء، وحينئذ لاضرورة.
ثانياً: قد يتداوى به المريض ولايبرأ، وحينئذٍ لا تندفع الضرورة به، ولهذا قول العوام: إنه يجوز التداوي بالمحرّم للضرورة قول لا صحّة له، وقد نص العلماء - رحمهم الله - على أنه يحرم التداوي بالمحرّم.
.4-أنه لا يجب من فعل المأمور إلا ما كان مستطاعاً، لقوله: وَمَا أَمرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ
فإن قال قائل: هل هذه الجملة تفيد التسهيل، أو التشديد، ونظيرها قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(التغابن: الآية16)
فالجواب: لها وجهان: فقد يكون المعنى: لابد أن تقوموا بالواجب بقدر الاستطاعة وأن لا تتهاونوا مادمتم مستطيعين.
ويحتمل أن المعنى: لاوجوب إلا مع الاستطاعة، وهذا يؤيده قوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(البقرة: الآية286)
ولهذا لو أمرت إنساناً بأمر وقال: لا أستطيع، وهو يستطيع لم يسقط عنه الأمر.
.5أن الإنسان له استطاعة وقدرة ، لقوله: مَا استَطَعْتُمْ فيكون فيه رد على الجبرية الذين يقولون إن الإنسان لا استطاعة له، لأنه مجبر على عمله، حتى الإنسان إذا حرّك يده عند الكلام، فيقولون تحريك اليد ليس باستطاعته ، بل مجبر، ولا ريب أن هذا قول باطل يترتب عليه مفاسد عظيمة.
.6أن الإنسان إذا لم يقدر على فعل الواجب كله فليفعل ما استطاع. ولهذا مثال: يجب علىالإنسان أن يصلي الفريضة قائماً، فإذا لم يستطع صلى جالساً.
وهنا سؤال: لو كان يستطيع أن يصلي قائماً لكنه لا يستطيع أن يكمل القيام إلى الركوع، بمعنى: أن يبقى قائماً دقيقة أو دقيقتين ثم يتعب ويجلس، فهل نقول: اجلس وإذا قارب الركوع فقم، أونقول: ابدأ الصلاة قائماً وإذا تعبت اجلس؟
الجواب:هذا فيه تردد عندي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذه اللحم كان يصلي في الليل جالساً فإذا بقي عليه آيات قام وقرأ ثم ركع[86]. وهذا يدلّ على أنك تقدم القعود أولاً ثم إذا قاربت الركوع فقم.
لكن يردّ على هذا أن النفل يجوز أن يصلي الإنسان فيه قاعداً، فقعد، فإذا قارب الركوع قام.
والفريضة الأصل أن يصلّي قائماً، فنقول: ابدأها قائماً ثم إذا تعبت فاجلس، وربما تعتقد أنك لا تستطيع القيام كله، ثم تقدر عليه، فنقول:ابدأ الآن بما تقدر عليه وهو القيام، ثم إن عجزت فاجلس، وهذا أقرب.
لكني أرى عمل الناس الآن في المساجد بالنسبة للشيوخ والمرضى، يصلي جالساً فإذا قارب الركوع قام، ولا أنكر عليهم لأني ليس عندي جزم أو نص بأنه يبدأ أولاً بالقيام ثم إذا تعب جلس، لكن مقتضى القواعد أنه يبدأ قائماً فإذا تعب جلس.
.7لاينبغي للإنسان إذا سمع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: هل هو واجب أم مستحبّ؟ لقوله: فَأْتُوا مِنْهُ مَا استَطَعْتُمْ ولا تستفصل، فأنت عبد منقاد لأمر الله عزّ وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
لكن إذا وقع العبد وخالف فله أن يستفصل في أمره،لأنه إذا كان واجباً فإنه يجب عليه التوبة، وإذا كان غير واجب فالتوبة ليست واجبة.
.8أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم أو نهى عنه فإنه شريعة، سواء كان ذلك في القرآن أم لم يكن، فُيعمل بالسنة الزائدة على القرآن أمراً أو نهياً.
هذا من حيث التفصيل،لأن في السنة ما لا يوجد في القرآن على وجه التفصيل، لكن في القرآن ما يدل على وجوب اتباع السنة،وإن لم يكن لها ذكر في القرآن مثل قول الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ) (النساء: الآية80) ومثل قول الله تعالى: ( فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ ) (الأعراف: الآية158)
فالقرآن دلّ على أن السنة شريعة يجب العمل بها،سواء ذكرت في القرآن أم لا.
.9أن كثرة المسائل سبب للهلاك ولاسيّما في الأمور التي لايمكن الوصول إليها مثل مسائل الغيب كأسماء الله وصفاته، وأحوال يوم القيامة،لاتكثر السؤال فيها فتهلك،وتكون متنطّعاً متعمّقاً.
وأما مايحتاج الناس إليه من المسائل الفقهية فلا حرج من السؤال عنها مع الحاجة لذلك، وأما إذا لم يكن هناك حاجة. فإن كان طالب علم فليسأل وليبحث، لأن طالب العلم مستعدٌ لإفتاء من يستفتيه. أما إذا كان غير طالب علم فلا يكثر السؤال.
.10أن الأمم السابقة هلكوا بكثرة المساءلة، وهلكوا بكثرة الاختلاف على أنبيائهم.
.11التحذير من الاختلاف على الأنبياء، وأن الواجب على المسلم أن يوافق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن يعتقدهم أئمة وأنهم عبيد من عباد الله، أكرمهم الله تعالى بالرسالة،وأن خاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى جميع الناس،وشريعته هي دين الإسلام الذي ارتضاه الله تعالى لعباده،وأن الله لايقبل من أحدٍ ديناً سواه،قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ) (آل عمران: الآية19) . والله الموفق.
[84] - أخرجه البخاري – كتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (6777) ومسلم – كتاب: الفضائل، باب: توقيره صلى الله عليه وسلم، (1337).
[85] - أخرجه البخاري – كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، (378)، ومسلم – كتاب: الصلاة، باب: ائتمام والمأموم بالإمام، (411)، (77).
[86] - أخرجه البخاري – كتاب: الصلاة، باب: الصلاة في السطوح والمنبر والخشب، (378)، ومسلم – كتاب: الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، (411)،(77). الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:36 | |
| [color=#000000]الحديث العاشر
عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ : (إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبَاً وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِيْنَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِيْنَ فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً ) (المؤمنون: الآية51) ، وَقَالَ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) (البقرة: الآية172) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء،ِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ،وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لذلك)[87] رواه مسلم.
الشرح
"إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ" كلمة طيب بمعنى طاهر منزّه عن النقائص،لايعتريه الخبث بأي حال من الأحوال، لأن ضد الطيب هو الخبيث،كما قال الله عزّ وجل: ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) (المائدة: الآية100) ، وقال: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَات)(النور: الآية26) ومعنى هذا أنه لايلحقه جل وعلا شيء من العيب والنقص. فهو عزّ وجل طيب في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أحكامه، وفي أفعاله، وفي كل ما يصدر منه، وليس فيها رديء بأي وجه.
لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبَاً فهو سبحانه وتعالى، لا يقبل إلا الطيب من الأقوال، والأعمال وغيرها، وكل رديء فهو مردودٌ عند الله عزّ وجل، فلا يقبل الله إلا الطيب، ومن ذلك الصدقة بالمال الخبيث لايقبلها الله عزّ وجل، لأنه لايقبل إلا طيباً، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ طَيِّبٍ وَلاَ يَقْبَلُ اللهَ إِلاَّ الطَّيِّبَ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْخُذُهَا بِيَمِيْنِهِ يُرَبِّيها كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُوْنَ مِثْلَ الجَبَلِ[88] .
فالطّيب من الأعمال: ما كان خالصاً لله، موافقاً للشريعة.
والطيب من الأموال: ما اكتسب عن طريق حلال، وأما ما اكتسب عن طريق محرّم فإنه خبيث.
"وَإَنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنِينَ بمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِيْنَ" تَعْلَيةً لشأن المؤمنين، وأنهم أهلٌ أن يوجّه إليهم ما أمر به الرسل، فقال عزّ وجل في أمر المرسلين: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً )(المؤمنون: الآية51) فأمر الرسل أن يأكلوا من الطيبات وهي التي أحلها الله عزّ وجل، واكتسبت عن طريق شرعي. فإن لم يحلّها الله كالخمر فإنه لايؤكل، وإن أحلَّه الله ولكن اكتسب عن طريق محرّم فإنه لايؤكل، وأضرب لذلك مثَلين:
الأول: رجل أكل من شاة ميتة، فهذا لم يأكل من الطيبات، لأن الله تعالى حرّم أكل الميتة. وهذا محرّم لذاته.
الثاني: رجل غصب شاة وذبحها وأكل منها، فحكمها أنها ليست بطيبة وهي محرّمة لكسبها.
" وَاعْمَلُوْا صَالحَاً " أي اعملوا عملاً صالحاً.
فأمرهم بالأكل الذي به قوام البدن، ثم أمرهم بالعمل الذي يكون نتيجة للأكل، لكنه قال: وَاعْمَلُوا صَالِحَاً وصالح العمل هو ما جمع بين: الإخلاص والمتابعة.
ولهذا روي عن بعض السلف أنه قال: العمل الصالح ماكان خالصاً صواباً. أي خالصاً لله صواباً على شريعة الله.
وقال تعالى في أمر المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ )(البقرة: الآية172) كما قال للرسل: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) فأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين.
إذاً نقول: المؤمنون مأمورون بالأكل من الطيبات، والمرسلون كذلك مأمورون بالأكل من الطيبات.
"ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ ..." يعني ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لهذا الرجل: "يُطِيْلُ السَّفَرَ" والسفر من أسباب إجابة الدعاء، ولاسيما إذا أطاله.
"أَشْعَث أَغْبَرَ" يعني أشعث في شعره أغبر من التراب، أي أنه لا يهتم بنفسه بل أهم شيء عنده الدعاء.
"يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء" ومد اليدين إلى السماء من أسباب إجابة الدعاء،كما جاء في الحديث: إنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيْمٌ يَسْتَحِييْ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفعَ يَديْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرَاً[89] .
"يَا رَبّ يَا رَبّ" نداء بوصف الربوبية،لأن ذلك وسيلة لإجابة الدعاء، إذ إن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية.
"وَ مَطْعَمُهُ حَرَامٌ" يعني طعامه الذي يأكله حرام، أي حرام لذاته أولكسبه.
"وَمَشرَبُهُ حَرَامٌ" يعني شربه الذي يشربه حرام، إما لذاته أو لكسبه.
"وغُذِيَ بالحَرَامِ" يعني أنه تغذّى بالحرام الحاصل من فعل غيره.
فَأَنَّى اسم استفهام، والمراد به الاستبعاد، يعني يبعد أن يستجاب لهذا، مع أن أسباب الإجابة موجودة.
وهذا للتحذير من أكل الحرام، وشربه، ولبسه، والتغذّي به.
من فوائد هذا الحديث:
.1أن من أسماء الله تعالى الطيّب، لقوله: إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ وهذا يشمل طيب ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه.
فأسماؤه كلّها حسنى، ولا يوجد في أ سماء الله ما يكون فيه النقص لاحقيقة ولافرضاً، فكلّ أسماء الله تعالى ليس فيها نقصٌ بوجه من الوجوه، لأن الله تعالى قال: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)(الأعراف: الآية180) والحسنى اسم تفضيل، يقابلها في المذكر: الأحسن.
ولذلك لاتجد في أسماء الله ما يحتمل النقص أبداً،ولهذا باب الصفات أوسع من باب الأسماء،لأن كل اسم متضمن لصفة،وأفعاله لامنتهى لها،كما أن أقواله لامنتهى لها،(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) [لقمان:27] فمن صفات الله المجيء، والإتيان والبطش كما قال تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ)(الفجر: الآية22) وقال: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (البروج:12)
فنصف الله تعالى بهذه الصفات على الوجه الوارد، ولانسمّيه بها،فلا نقول من أسمائه: الجائي والممسك والباطش. وإن كنا نخبر بذلك عنه سبحانه ونصفه به
وهو سبحانه وتعالى طيب في صفاته: فكل صفات الله تعالى طيبة ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، فمثلاً:
القدرة والسمع، والبصر، والتكلم، كل هذه صفات طيبة يتصف الله تعالى بها. وهناك من الصفات ما تكون كمالاً في حال ونقصاً في حال،وهذه الصفات لاتكون جائزة في حق الله ولا ممتنعة على سبيل الإطلاق،فلا تثبت له سبحانه إثباتاً مطلقاً، ولا تنفى عنه نفياً مطلقاً،بل لابد من التفصيل: فتجوز في الحال التي تكون كمالاً، وتمنع في الحال التي تكون نقصاً،وذلك كالمكر، والكيد،والخداع ونحوها،فهذه الصفات تكون كمالاً إذا كانت في مقابلة من يعاملون الفاعل بمثلها،لأنها حينئذٍ تدل على أن فاعلها قادر على مقابلة عدوه بمثل فعله أو أشد،وتكون نقصاً في غير هذه الحال،ولهذا لم يذكرها الله من صفاته على سبيل الإطلاق،وإنما ذكرها في مقابلة من يعاملونه ورسله بمثلها،كقوله تعالى: ( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(الأنفال: الآية30) و (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً) .
وأما الخيانة فلا يوصف الله بها، لأنها نقص بكل حال، فلا يوصف الله تعالى بالخيانة، ويدل لهذا قول الله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُم)(البقرة: الآية9) وقوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)(النساء: الآية142) فأثبت الخداع لأنه يدل على القوة.
لكن في الخيانة قال الله عزّ وجل: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ)(لأنفال: الآية71) ولم يقل: فقد خانوا الله من قبل فخانهم، لأن الخيانة خِدعة في مقام الأمان،وهي صفة ذمّ مطلقاً،وبذا عرف أن القول "خان اللهُ من يخون" قول منكر فاحش يجب النّهي عنه ووصف ذم لا يوصف الله به.
إذاً صفات الله تعالى كلها طيبة، وقد قال الله تعالى في القرآن الكريم: ( وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)(النحل: الآية60) أي الوصف الأعلى من كل وجه.
كذلك أيضاً هو طيبٌ في أفعاله، فأفعال الله تعالى كلها طيبة، لايفعل إلا خيراً، وتقدم لنا الجواب عن قوله في القدر: "خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" فأفعاله كلّها خيرٌ وأحكامه كذلك كلّها متضمنة لمصلحة العباد في معاشهم ومعادهم، ولذا فهي طيبة صالحة لكلّ زمان ومكان وحال.
.2كمال الله عزّ وجل في ذاته، وصفاته وأفعاله، وأحكامه.
.3أن الله تعالى غنيّ عن الخلق فلا يقبل إلا الطيب، لقوله: "لايَقبَلُ إلاَّ طَيِّبَاً" فالعمل الذي فيه شرك لايقبله الله عزّ وجل لأنه ليس بطيب، وكذا التصدّق بالمال المسروق لا يقبله الله لأنه ليس بطيب، والتصدّق بالمحرّم لعينه لا يقبله الله لأنه ليس بطيب.
.4تقسيم الأعمال إلى مقبول ومردود، لقول: "لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبَاً" فنفي القبول يدل على ثبوته فيما إذا كان طيباً، وهذا شيء ظاهر.
ومن ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأ)[90] هذا في العمل المقبول .
ومنها قوله : (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)[91] وهذا في العمل المردود.
.5أن الرسل عليهم الصلاة والسلام يؤمرون وينهون، لقوله: إِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرسَلِيْنَ وهو كذلك فالرسل عليهم الصلاة والسلام أكمل العباد عبادة لله عزّ وجل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم في الليل حتى تتورّم قدماه، فقيل له في ذلك:إنه قد غفر الله له ماتقدّم من ذنبه وما تأخّر. فقال: "أَفَلا أَكُوْنُ عَبْدَاً شَكُوْرَاً"[92] صلوات الله وسلامه عليه . وقس حال النبي صلى الله عليه وسلم بحالنا اليوم، فالإنسان منا ينام إلى طلوع الفجر مع أن نعم الله علينا لا تحصى، ولقد قام مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رجال شبّان وعجزوا أن يلحقوه في تهجّده.
فهذا الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قام مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة يتهجّد يقول: فقرأ سورة البقرة فقلت يركع عند المائة فمضى حتى أكملها، فقلت يركع، فشرع في سورة النساء وأكملها، ثم شرع في سورة آل عمران وأكملها[93] ،وهو شاب.
وابن عباس رضي الله عنهما قام مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ورأى من تهجّده ما يطول. والحاصل: أن الرسل مأمورون منهيون وأنهم أقوم الناس بعبادة الله عزّ وجل.
.6أن المؤمنين مأمورون منهيون لقوله: "وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرسَلِينَ" وكلما كان الإنسان أقوى إيماناً كان أكثر امتثالاً لأمر الله عزّ وجل، وإذا رأيت من نفسك هبوطاً في امتثال الأوامر فاتّهمها بنقص الإيمان وصحح الوضع قبل أن يستشري هذا المرض فتعجز عن الاستقامة فيما بعد.
.7استعمال ما يشجع على العمل، وجهه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله أَمَرَ المُؤمنينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرسَلِيْنَ" فإذا علم المؤمن أن هذا من مأمورات المرسلين فإنه يتقوَّى ويتشجّع على الامتثال.
.8الأمر بالأكل من الطيبات للمؤمنين والمرسلين.
ويتفرّع على هذا فائدة: ذم من امتنع عن الطيبات بدون سبب شرعي، فلو أن إنساناً بعد أن منَّ الله على الأمة بالغنى وأنواع الثمار والفواكه قال: أنا لن آكل هذه تورّعاً لا لعدم الرّغبة، فإنه قد أخطأ وعمله خلاف عمل السلف الصالح، لأن السلف الصالح لما فتحوا البلاد صاروا يأكلون ويشربون أكلاً وشرباً لايعرفونه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن امتنع عن الطيبات بغير سبب شرعي فهو مذموم رادٌّ لمنّة الله عزّ وجل عليه، ومن المعلوم بالعقل أن ردّ منّة ذي المنّة إساءة أدب، فلو أن رجلاً من الكرماء أهدى إليك هدية ورددتها فإن هذا يعتبر سوء خلق وأدب، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد الهدية[94] ، ولو كانت الهدية شيئاً قليلاً فإنه يقبلها ويثيب عليها.
والخلاصة: أن الامتناع عن الطيّبات لغير سبب شرعي مذموم.
.9أنه يجب شكر نعمة الله عزّ وجل بالعمل الصالح لقوله تعالى: ( كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً)(المؤمنون: الآية51) وفي المؤمنين قال: ( كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّه)(البقرة: الآية172)
ويتفرّع من الجمع بين الآيتين: أن الشكر هو العمل الصالح،لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤمِنِيْنَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ" والذي أمر به المرسلين شيئان:
الأول: الأكل من الطيبات .
والثاني: العمل الصالح.
فليس كل من قال: الشكر لله، والحمد لله يكون شاكراً حتى يعمل صالحاً، ولهذا قال بعض الفقهاء: الشكر طاعة المنعم، أي القيام بطاعته، وهذا معنى قوله (وَاعْمَلُوا صَالِحاً ) المؤمنون 51)
.10توجيه الأمر لمن هومتّصف به،لقوله: وَاعْملُوا صَالِحَاً فوجه الأمر بالعمل الصالح للمرسلين مع أنهم يعملون الصالحات ولا شك في ذلك، وهذا كقوله تعالى لرسوله محمد : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ)(الأحزاب: الآية1) وقوله: ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ) [الأحزاب:37] ففي هذه الآيات أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتقوى مع أنه صلى الله عليه وسلم أتقى الناس لله عزّ وجل والواحد منا -ونحن مفرطون - إذا قيل له: اتق الله.انتفخ غضباً، ولو قيل له: الله يهديك، لقال:وما الذي أنا واقع فيه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطبه ربه بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) [الأحزاب:1].
فالرسل عليهم الصلاة والسلام مأمورون بالعمل الصالح وإن كانوا يعملونه تثبيتاً لهم على ماهم عليه ليستمرّوا عليه.
.11تحريم الخبائث، لقوله: (مِنْ الطَيِّبَاتِ) وقوله في المؤمنين: ( مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) [البقرة:172].
* لكن ماهو مدار الخبث: أعلى ما يستخبثه الناس وكل إنسان بطبيعته أو أن نقول: الخبيث ما استخبثه الشرع.
والجواب: الخبيث ما استخبثه الشرع،لأنه لايمكن أن يرد هذا إلى عقول الناس،لأنه يفتح من الشر والخلاف ما هو معلوم،ولنضرب لهذا مثالاً: بعض الناس يستقذر ويستخبث أكل الجراد. ومن الناس من يستخبث الضب،وهما حلال،وعلى هذا فالاستخباث ليس مرجعه للكراهة الطبيعية،لأن كل إنسان يكره ما لا يعتاد أكله.
وعلى هذا فالمرجع في كون الشيء طيباً أو خبيثاً إلى الشرع لا إلى أذواق الناس، فبعض العرب كما قيل عنهم: يأكل كل ماهب ودب إلاالخنفساء أو شيءٍ مثل الخنفساء، والباقي كله يؤكل.
.12استبعاد إجابة آكل الحرام لو عمل من أسباب الإجابة ما عمل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر.... وقال بعد ذلك "أَنَّى يُسْتَجَابُ" لذلك وهذا استفهام استبعاد.
لكن هل هذا يعني أنه يستحيل أن يجاب؟
والجواب: لا، لأن الإنسان قد يستبعد شيئاً ولكن يقع، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم استبعد هذا تنفيراً عن أكل الحرام.
.13أن السفر من أسباب إجابة الدعاء، وجه هذا: أنه وردت أحاديث في أن المسافر لاتردّ دعوته[95] ، ثم إن ذِكْرَ الرسول صلى الله عليه وسلم السفر يدل على أن للسفر تأثيراً في إجابة الدعاء،ولاسيما إذا أطال السفر وبعد عن الوطن فإن قلبه يكون أشد انكساراً ولجوءاً إلى الله عزّ وجل.
.14أن الشعث والغبرة من أسباب إجابة الدعاء.
لكن هذا قد يرد عليه أن التورع عن المباحات بدون سبب شرعي مذموم، فيقال المراد بالحديث: أن هذا الرجل يهتم بأمور الآخرة أكثر من اهتمامه بأمور الدنيا.
.15أن رفع اليدين في الدعاء من أسباب الإجابة.
ويكون الرفع بأن ترفع يديك تضم بعضهما إلى بعض على حذاء الثُّندُؤتين أي أعلى الصدر، ودعاء الابتهال ترفع أكثر من هذا، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستسقاء رفع يديه كثيراً حتى ظن الظانّ أن ظهورهما نحو السماء من شدة الرفع، وكلما بالغت في الابتهال فبالغ في الرفع.
وهنا مسألة: هل رفع اليدين مشروع في كل دعاء؟
الجواب: هذا على ثلاثة أقسام:القسم الأول: ما ورد فيه رفع اليدين . والقسم الثاني: ماورد فيه عدم الرفع. والقسم الثالث: مالم يرد فيه شيء.
فمثال القسم الأول: إذا دعا الخطيب باستسقاء، أو استصحاء فإنه يرفع يديه والمأمومون كذلك،لما رواه البخاري في حديث أنس رضي الله عنه في قصّة الأعرابي الذي طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة أن يستسقي فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ورفع الناس أيديهم معه يدعون[96]
ومما جاء في السنة رفع اليدين في القنوت في النوازل أو في الوتر. وكذلك رفع اليدين على الصفا وعلى المروة، وفي عرفة، وما أشبه ذلك فالأمر في هذا واضح.
الثاني: ماورد فيه عدم الرفع كالدعاء حال خطبة الجمعة في غير الاستسقاء والاستصحاء، فلو دعا الخطيب للمؤمنين والمؤمنات أو لنصر المجاهدين في خطبة الجمعة فإنه لايرفع يديه، ولو رفعهما لأنكر عليه، ففي صحيح مسلم عن عمارة بن رؤيبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه فقال: "قبح الله هاتين اليدين،لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد أن يقول بيده هكذا.وأشار بإصبعه المسبحة"[97] ، وكذلك رفع اليدين في دعاء الصلاة كالدعاء بين السجدتين، والدعاء بعد التشهّد الأخير ،وما أشبه ذلك، هذا أيضاً أمره ظاهر.
الثالث: ما لم يرد فيه الرفع ولا عدمه: فالأصل الرّفع لأنه من آداب الدعاء ومن أسباب الإجابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم "إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيْمٌ يَسْتَحْيِيْ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهَ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرَاً"[98] .
لكن هناك أحوال قد يُرَجَّحُ فيها عدم الرّفع وإن لم يرد كالدعاء بين الخطبتين مثلاً،فهنا لا نعلم أن الصحابة كانوا يدعون فيرفعون أيديهم بين الخطبتين، فرفع اليدين في هذه الحال محلّ نظر، فمن رفع على أن الأصل في الدعاء رفع اليدين فلا يُنْكَرُ عليه، ومن لم يرفع بناءً على أن هذا ظاهر عمل الصحابة فلا ينكر عليه،فالأمر في هذا إن شاء الله واسع.
.16أن من أسباب إجابة الدعاء التوسل إلى الله تعالى بالربوبية لقوله: "يَا رَبّ يَا رَبّ" وقد ورد في حديث: أن الإنسان إذا قال: يارب يارب يارب قال الله تعالى: ماذا تريد، أو كلمة نحوها، ثم استجاب له، ولهذا تجد أكثر الأدعية الموجودة في القرآن مصدرة بـ: يارب.
ولما سمع بعض السلف داعياً يقول: ياسيدي، فقال: لاتقل ياسيدي، قل ما قالت الرسل: يارب . وذلك لأن العدول عن الألفاظ الشرعية غلط؛ وإن كان الإنسان يجد أن ذلك أشد تعظيماً.
وهذه بليّة ابتُليَ بها كثير من الناس، تجدهم يأتون بأسجاع كثيرة من الأدعية لا زمام لها، وربما يكون بعضها محذوراً،ويعدلون عن الأدعية الشرعية، ولهذا أوصي بأن لا تعدلوا عن الأدعية الشرعية إلى غيرها،إلامن له حاجة خاصة ،يريد أن يسأل ربه إياها، فهذا شيء آخر، لكن تأتي بأسجاع طويلة عريضة لاأصل لها ولا زمام ،فهذا خلاف ما ينبغي للإنسان إذا دعا الله عزّ وجل.
.17التحذير البالغ من أكل الحرام، لأن أكل الحرام من أسباب ردّ الدعاء وإن توفرت أسباب الإجابة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فَـَأنى يُسْتَجَابُ لذلك" هذا مع أن أكل الحرام - والعياذ بالله - سبب لانصراف الإنسان عن القيام بواجب الدين،لأن البدن يكون متغذّياً على شيءٍ فاسد، والمتغذي على فاسد سيؤثر عليه هذا الغذاء. والله المستعان.
[87] - أخرجه مسلم – كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، (1015)، (65)
[88] - أخرجه البخاري – كتاب: الزكاة، باب: الصدقة من كسب طيب، (1410)، ومسلم – كتاب: الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، (1014)، (63)
[89] - أخرجه الإمام أحمد (5/438) والحاكم (1/497) والترمذي، كتاب الدعاوت، باب 104(3556) قال: هذا الحديث حسن غريب. وقال الحاكم: إسناده صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في الجامع (1757).
[90] - أخرجه البخاري – كتاب: الحيل، باب: في الصلاة، (6954)، ومسلم –كتاب: الطهارة، باب: وجوب الطهارة للصلاة، (225)ن(2)
[91] سبق تخريجه صفحة (13)
[92] أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب (ليغفر للك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) (4836) ، مسلم، كتاب صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (2819)
[93] - أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (772).
[94] - أخرجه البخاري – كتاب: الهبة، باب: المكافأة في الهبة، (2585)
[95] - (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، دعوى المظلوم) أخرجه الإمام أحمد (2/258) والبخاري في الأدب المفرد (32)، وابن حبان كما في الموارد (2407) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3031).
[96] أخرجه البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل القبلة (1014) ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء (897).
[97] أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (874).
[98] تقدم تخريجه ص 143 الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:36 | |
| الحديث الحادي عشر
عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بنِ عَلِيّ بنِ أبِي طالبٍ سِبْطِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَيْحَانَتِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: حَفِظْتَ مِنْ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (دَعْ مَا يَرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيْبُكَ)[99] رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
الشرح
الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما سبط النبي صلى الله عليه وسلم ، والسبط: هوابن البنت، وابن الابن يسمى: حفيداً، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيد فقال: (إِنَّ ابْنِي هذَا سَيِّدٌ، وَسَيُصْلِحُ اللهُ بهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ)[100] وكان الأمر كذلك، فإنه بعد أن استشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبويع بالخلافة للحسن تنازل عنها لمعاوية رضي الله عنه، فأصلح الله بهذا التنازل بين أصحاب معاوية وأصحاب علي رضي الله عنهما، وحصل بذلك خير كثير.
وهو أفضل من أخيه الحسين رضي الله عنهما،لكن تعلقت الرافضة بالحسين لأن قصة قتله رضي الله عنه تثير الأحزان، فجعلوا ذلك وسيلة، ولو كانوا صادقين في احترام آل البيت لكانوا يتعلقون بالحسن أكثر من الحسين،لأنه أفضل منه.
وأما قوله: وَرَيحَانَتهُ الريحانة هي تلك الزهرة الطيبة الرائحة،وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين بأنهما ريحانتاه[101] .
وقوله: "دَعْ" أي اترك "مَا يرِيْبُكَ" أي ما يلحقك به ريب وشك وقلق إِلَى "مَا لاَ يَرِيْبُكَ" أي إلى شيءٍ لايلحقك به ريبٌ ولا قلق.
وهذا الحديث من جوامع الكلم وما أجوده وأنفعه للعبد إذا سار عليه، فالعبد يرد عليه شكوك في أشياء كثيرة،فنقول: دع الشك إلى ما لاشكّ فيه حتى تستريح وتسلم، فكل شيء يلحقك به شكّ وقلق وريب اتركه إلى أمر لا يلحقك به ريب، وهذا مالم يصل إلى حد الوسواس، فإن وصل إلى حد الوسواس فلا تلتفت له.
وهذا يكون في العبادات، ويكون في المعاملات، ويكون في النكاح، ويكون في كل أبواب العلم.
ومثال ذلك في العبادات: رجل انتقض وضوؤه، ثم صلى، وشكّ هل توضّأ بعد نقض الوضوء أم لم يتوضّأ ؟ فوقع في الشكّ ، فإن توضّأ فالصلاة صحيحة، وإن لم يتوضّأ فالصلاة باطلة، وبقي في قلق.
فنقول: دع ما يريبك إلى ما لايريبك، فالريب هنا صحة الصلاة، وعدم الريب أن تتوضّأ وتصلي.
وعكس المثال السابق : رجل توضّأ ثم صلى وشك هل انتقض وضوؤه أم لا؟
فنقول: دع ما يريبك إلى ما لايريبك، عندك شيء متيقّن وهو الوضوء، ثم شككت هل طرأ على هذا الوضوء حدث أم لا؟ فالذي يُترك هو الشك: هل حصل حدث أو لا؟ وأرح نفسك، واترك الشك.
كذلك أيضاً في النّكاح: كما لو شكّ الإنسان في شاهدي النكاح هل هما ذوا عدل أم لا؟ فنقول: إذا كان الأمر قد تم وانتهى فقد انتهى على الصحة ودع القلق لأن الأصل في العقود الصحة حتى يقوم دليل الفساد.
في الرّضاع: شَكُّ المرضعةِ هل أرضعت الطفل خمس مرات أو أربع مرات؟
نقول: الذي لاريب فيه الأربع، والخامسة فيها ريب، فنقول: دع الخامسةواقتصر على أربع ، وحينئذ لايثبت حكم الرضاع.
هذا الباب بابٌ واسعٌ لكنه في الحقيقة طريق مستقيم إذا مشى الإنسان عليه في حياته حصل على خير كثير: "دَعْ مَا يرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَيَرِيْبُكَ".
وقد تَقَدَّمَ أَنَّ هذا مقيّد بما إذا لم يكن وسواساً، فإن كان وسواساً فلا يلتفت إليه، وعدم الالتفات إلى الوسواس هو ترك لما يريبه إلى ما لايريبه، ولهذا قال العلماء - رحمهم الله - الشك إذا كثر فلا عبرة به، لأنه يكون وسواساً، وعلامة كثرته: أن الإنسان إذا توضّأ لا يكاد يتوضأ إلا شك، وإذا صلى لا يكاد يصلي إلا شك، فهذا وسواس فلا يلتفت إليه، وحينئذ يكو ن قد ترك ما يريبه إلى ما لايريبه.
مثال آخر: رجل أصاب ثوبه نجاسة وغسلها، وشكّ هل النجاسة زالت أم لم تزل؟ يغسلها ثانية، لأن زوالها الآن مشكوك فيه، وعدم زوالها هو الأصل، فنقول:دع هذا الشك وارجع إلى الأصل واغسلها حتى تتيقّن أو يغلب على ظنك أنها زالت.
يقول: "رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيّ، وقَالَ التِّرْمِذِيّ:حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيْحٌ" والحديث كما قال الترمذي صحيح، لكنْ في الجمع بين كونه حسناً وكونه صحيحاً إشكال، لأن المعروف أن الصحيح من الحديث غير الحسن، لأن العلماء قسموا الحديث إلى: صحيح لذاته، وصحيح لغيره، وحسن لذاته، وحسن لغيره، وضعيف.
فكيف يُجمع بين وصفين متناقضين لموصوف واحد: حسن صحيح؟ ؟
أجاب العلماء عن ذلك بأنه: إن كان هذا الحديث جاء من طريق واحد فمعناه أن الحافظ شكّ هل بلغ هذا الطريق درجة الصّحيح أو لازال في درجة الحسن.
وإذا كان من طريقين فمعنى ذلك: أن أحد الطريقين صحيح والآخر حسن.
وهنا فائدة في: أيّهما أقوى أن يوصف الحديث بالصحة، أو بكونه صحيحاً حسناً؟
الجواب: نقول: إذا كان من طريقين فحسن صحيح أقوى من صحيح، وإن كان من طريق واحد فحسن صحيح أضعف من صحيح، لأن الحافظ الذي رواه تردد هل بلغ درجة الصحة أو لا زال في درجة الحسن.
من فوائد هذا الحديث:
.1أن الدين الإسلامي لا يريد من أبنائه أن يكونوا في شكّ ولا قلق، لقوله: دَعْ مَا يرِيْبُكَ إِلَى مَا لاَيَرِيْبُكْ.
.2أنك إذا أردت الطمأنينة والاستراحة فاترك المشكوك فيه واطرحه جانباً،لاسيّما بعد الفراغ من العبادةحتى لايلحقك القلق، ومثاله: رجل طاف بالبيت وانتهى وذهب إلى مقام إبراهيم ليصلي، فشك هل طاف سبعاً أو ستًّا فماذا يصنع؟
الجواب: لايصنع شيئاً، لأن الشك طرأ بعد الفراغ من العبادة، إلا إذا تيقن أنه طاف ستًّا فيكمل إذا لم يطل الفصل.
- مثال آخر: رجل انتهى من الصلاة وسلم، ثم شك هل صلى ثلاثاً أم أربعاً، فماذا يصنع؟
الجواب: لايلتفت إلى هذا الشك، فالأصل صحة الصلاة مالم يتيقن أنه صلى ثلاثاً فيأتي بالرابعة إذا لم يطل الفصل ويسلم ويسجد للسهو ويسلم.
.3أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، لأن هاتين الجملتين: "دع مايريبك إلى مالايريبك" لو بنى عليهما الإنسان مجلداً ضخماً لم يستوعب ما يدلان عليه من المعاني، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[99] - أخرجه الترمذي- كتاب: صفة القيامة، باب،(2518). والنسائي – كتاب الأشربة، باب: الحث على ترك الشبهات، (5711)
[100] - أخرجه البخاري – كتاب: الصلح، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي رضي الله عنه، (2704)
[101] - أخرجه البخاري- كتاب: فضائل الصحابة: مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما، (3753) تاريخ التحديث : May 4, 2005 الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:37 | |
| الحديث الثاني عشر عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَيَعْنِيْهِ)[102] حديثٌ حسنٌ، رواه الترمذي وغيره هكذا.
الشرح
"مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ" خبر مقدم و: "تَرْكُ" مبتدأ مؤخّر.
وقوله: "مَا لاَيَعْنِيْهِ" أي ما لاتتعلق به عنايته ويهتم به، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرَاً أَولِيَصْمُتْ"[103] فإنه يشابهه من بعض الوجوه.
من فوائد هذا الحديث:
.1أن الإسلام جمع المحاسن، وقد ألّف شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - رسالة في هذا الموضوع: (محاسن الدين الإسلامي) وكذلك ألّف الشيخ عبد العزيز بن محمد بن سلمان - رحمه الله - رسالة في هذا الموضوع.
ومحاسن الإسلام كلّها تجتمع في كلمتين: قال الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ)(النحل: الآية90).
.2أن ترك الإنسان ما لايهتم به ولا تتعلق به أموره وحاجاته من حسن إسلامه.
.3أن من اشتغل بما لا يعنيه فإن إسلامه ليس بذاك الحسن، وهذا يقع كثيراً لبعض الناس فتجده يتكلم في أشياء لاتعنيه، أو يأتي لإنسان يسأله عن أشياء لاتعنيه ويتدخل فيما لايعنيه، وكل هذا يدل على ضعف الإسلام.
.4أنه ينبغي للإنسان أن يتطلب محاسن إسلامه فيترك ما لايعنيه ويستريح، لأنه إذا اشتغل بأمور لاتهمّه ولاتعنيه فقد أتعب نفسه. وهنا قد يَرِدُ إشكالٌ: وهو هل ترك العبد ما لايعنيه هو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
والجواب: لا، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يعني الإنسان، كما قال الله عزّ وجل: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(آل عمران: الآية104) فلو رأيت إنساناً علىمنكر وقلت له: يا أخي هذا منكر لايجوز. فليس له الحق أن يقول: هذا لايعنيك، ولو قاله لم يقبل منه، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني الأمة الإسلامية كلها.
ومن ذلك أيضاً: ما يتعلق بالأهل والأبناء والبنات فإنه يعني راعي البيت أن يدلّهم على الخير ويأمرهم به ويحذرهم من الشر وينهاهم عنه. قال الله عزّ وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)(التحريم: الآية6) والله الموفق.
[102] - أخرجه الترمذي – كتاب: الزهد، باب: ما جاء فيمن تكلم فيما لا يعينه، (2318). وابن ماجه – كتاب: الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة، (3976). والإمام أحمد- مسند آل أبي طالب عن الحسين بن علي بلفظ "إن من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعينه"، (1732)
[103] - أخرجه البخاري – كتاب: الرقائق، باب: حفظ اللسان، (6475)، ومسلم- كتاب الإيمان، باب: الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير وكون ذلك كله من الإيمان، (47)، (74). الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:37 | |
| الحديث الثالث عشر عَنْ أَبِيْ حَمْزَة أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ خَادِمِ رَسُوْلِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيْهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)[104] رواه البخاري ومسلم
الشرح
قوله: "لاَيُؤمِنُ أَحَدُكُمْ" أي لا يتم إيمان أحدنا، فالنفي هنا للكمال والتمام، وليس نفياً لأصل الإيمان.
فإن قال قائل: ما دليلكم على هذا التأويل الذي فيه صرف الكلام عن ظاهره؟
قلنا: دليلنا على هذا أن ذلك العمل لا يخرج به الإنسان من الإيمان، ولا يعتبر مرتدّاً، وإنما هو من باب النصيحة، فيكون النفي هنا نفياً لكمال الإيمان.
فإن قال قائل: ألستم تنكرون على أهل التأويل تأويلهم؟
فالجواب: نحن لاننكر على أهل التأويل تأويلهم، إنما ننكر على أهل التأويل تأويلهم الذي لادليل عليه، لأنه إذا لم يكن عليه دليلٌ صار تحريفاً وليس تأويلاً، أما التأويل الذي دلّ عليه الدليل فإنه يعتبر من تفسير الكلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "اللَّهُمَّ فَقِّههُ فِي الدِّيْنِ وَعَلِّمْهُ التَّأوِيْلَ"[105].
فإن قال قائل: في قول الله تعالى: ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل:98)
المراد به: إذا أردت قراءة القرآن، فهل يعتبر هذا تأويلاً مذموماً، أو تأويلاً صحيحاً؟
والجواب: هذا تأويل صحيح، لأنه دلّ عليه الدليل من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعوّذ عند القراءة لا في آخر القراءة .
وإذا قال قائل: في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(المائدة: الآية6) إن المراد إذا أردتم القيام إليها، فهل يعتبر هذا تأويلاً مذموماً، أو صحيحاً ؟
والجواب: هذا تأويل صحيح.
وعليه فلا ننكر التأويل مطلقاً، إنما ننكر التأويل الذي لا دليل عليه ونسميه تحريفاً.
"لاَ يُؤمِنُ أَحَدُكُمْ" الإيمان في اللغة هو: الإقرار المستلزم للقبول والإذعان والإيمان وهو مطابق للشرع وقيل: هو التصديق وفيه نظر؛ لأنه يقال: آمنت بكذا وصدقت فلاناً ولايقال: آمنت فلاناً. وقيل الإيمان في اللغة الإقرار واستدل القائل لذلك أنه يقال: آمن به وأقرّ به، ولا يقال: آمنه بمعنى صدقه، فلمّا لم يتوافق الفعلان في التعدّي واللزوم عُلم أنهما ليسا بمعنى واحد.
فالإيمان في اللغة حقيقة : إقرار القلب بما يرد عليه، وليس التصديق.
وقد يرد الإيمان بمعنى التصديق بقرينة مثل قوله تعالى: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ )(العنكبوت: الآية26) على أحد القولين مع أنه يمكن أن يقال: فآمن له لوط أي انقاد له - أي إبراهيم - وصدّق دعوته.
أما الإيمان في الشرع فهوكما سبق في تعريفه في اللغة.
فمن أقرّ بدون قبول وإذعان فليس بمؤمن، وعلى هذا فاليهود والنصارى اليوم ليسوا بمؤمنين لأنهم لم يقبلوا دين الإسلام ولم يذعنوا.
وأبو طالب كان مقرّاً بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويعلن بذلك، ويقول:
لقدْ عَلموا أَنَّ ابننا لا مكذّب لدينا ولا يُعنى بقول الأباطل
ويقول:
ولقد علمتُ بأنّ دينَ محمّدٍ من خير أديانِ البريّة ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبّةٍ لرأيتني سمْحَاً بذاكَ مبيناً
وهذا إقرار واضح ودفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومع ذلك ليس بمؤمن، لفقده القبول والانقياد، فلم يقبل الدعوة ولم ينقد لها فمات على الكفر - والعياذ بالله - .
ومحل الإيمان: القلب واللسان والجوارح، فالإيمان يكون بالقلب، ويكون باللسان، ويكون بالجوارح، أي أن قول اللسان يسمى إيماناً، وعمل الجوارح يسمى إيماناً، والدليل: قول الله عزّ وجل: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ )(البقرة: الآية143) قال المفسّرون: إيمانكم: أي صلاتكم إلى بيت المقدس، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "الإِيْمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً فَأَعْلاهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، وأدنْاهَا إِمَاطَةُ الأذى عَنِ الطَّرِيْقِ وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيْمَانِ"[106].
أعلاها قول: لا إله إلا الله، هذا قول اللسان.
وأدناها : إماطة الأذى عن الطريق وهذا فعل الجوارح، والحياء عمل القلب. وأما القول بأن الإيمان محلّه القلب فقط، وأن من أقرّ فقد آمن فهذا غلط ولا يصحّ.
وقوله: "حَتَّى يُحَبَّ" (حتى) هذه للغاية، يعني: إلى أن "يُحَبَّ لأَخِيْه" والمحبة: لاتحتاج إلى تفسير، ولايزيد تفسيرها إلا إشكالاً وخفاءً، فالمحبة هي المحبة، ولا تفسَّر بأبين من لفظها.
وقوله: "لأَخِيْهِ" أي المؤمن "مَا يُحبُّ لِنَفْسِهِ" من خير ودفع شر ودفاع عن العرض وغير ذلك،وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الجَنَّةَ فَلْتَأتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، وَلْيَأتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤتَى إِلَيْهِ"[107] الشاهد هنا قوله: وَلْيَأتِ إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤتَى إِلَيْهِ .
من فوائد هذا الحديث:
.1جواز نفي الشيء لانتفاء كماله، لقول: "لايُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيْهِ" ومثله قوله: "لا يُؤمنُ مَنْ لا يَأَمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ"[108].
ومن الأمثلة على نفي الشيء لانتفاء كماله قول النبي صلى الله عليه وسلم : "لاصَلاةَ بِحَضْرَةِ طَعَام"[109] أي لا صلاة كاملة، لأن هذا المصلي سوف يشتغل قلبه بالطعام الذي حضر، والأمثلة على هذا كثيرة.
.2وجوب محبة المرء لأخيه ما يحب لنفسه، لأن نفي الإيمان عن من لايحب لأخيه ما يحب لنفسه يدل على وجوب ذلك، إذ لايُنفى الإيمان إلا لفوات واجب فيه أو وجود ما ينافيه.
.3التحذير من الحسد، لأن الحاسد لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل يتمنّى زوال نعمة الله عن أخيه المسلم.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير الحسد: فقال بعضهم "تمنّي زوال النعمة عن الغير" . وقال بعضهم الحسد هو: كراهة ما أنعم الله به على غيره، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: إذا كره العبد ما أنعم الله به على غيره فقد حسده، وإن لم يتمنَّ الزوال .
.4أنه ينبغي صياغة الكلام بما يحمل على العمل به، لأن من الفصاحة، صياغة الكلام بما يحمل على العمل به، والشاهد لهذا قوله: "لأَخِيهِ" لأن هذه يقتضي العطف والحنان والرّقة، ونظير هذا قول الله عزّ وجل في آية القصاص: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء)(البقرة: الآية178) مع أنه قاتل، تحنيناً وتعطيفاً لهذا المخاطب.
فإن قال قائل: هذه المسألة قد تكون صعبة، أي: أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، بمعنى: أن تحب لأخيك أن يكون عالماً، وأن يكون غنياً، وأن يكون ذا مال وبنين، وأن يكون مستقيماً، فقد يصعب هذا؟
فنقول: هذا لايصعب إذا مرّنت نفسك عليه، مرّن نفسك على هذا يسهل عليك، أما أن تطيع نفسك في هواها فنعم سيكون هذا صعباً.
فإن قال تلميذ من التلاميذ: هل يدخل في ذلك أن ألقن زميلي في الاختبار لأنني أحب أن أنجح فألقنه لينجح؟
فالجواب: لا، لأن هذا غشّ، وهو في الحقيقة إساءة لأخيك وليس إحساناً إليه، لأنك إذا عودته الخيانة اعتاد عليها، ولأنك تخدعه بذلك حيث يحمل شهادة ليس أهلاً لها. والله الموفق.
[104] - أخرجه البخاري – كتاب: الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، (13). ومسلم – كتاب: الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير، (45)، (71)
[105] - أخرجه البخاري – كتاب: الوضوء، باب: وضع الماء عند الخلاء، (143).
[106] - أخرجه مسلم – كتاب: الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء، وكونه من الإيمان، (35)،(58)
[107] - أخرجه مسلم – كتاب: الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، (1844)، (46)
[108] - أخرجه البخاري – كتاب: الأدب، باب: إثم من لا يأمن جاره بوائقه، (6016)
[109] - أخرجه مسلم – كتاب: المساجد، باب: كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحالوكراهة الصلاة مع مدافعة الأخبثين، (560)، (67) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:38 | |
| الحديث الرابع عشر
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : (لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بإِحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِيْ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّاركُ لِدِيْنِهِ المُفَارِقُ للجمَاعَةِ)[110] رواه البخاري ومسلم.
الشرح
"لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ" أي لا يحل قتله،وفسّرناها بذلك لأن هذا هو المعروف في اللغة العربية، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ دِمَاءَكَمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاَضَكُمْ عَليْكُمْ حَرَامٌ"[111] .
وقوله: "امرِئٍ مُسْلِمٍ" التعبير بذلك لايعني أن المرأة يحل دمها، ولكن التعبير بالمذكر في القرآن والسنة أكثر من التعبير بالمؤنث، لأن الرجال هم الذين تتوجه إليهم الخطابات وهم المعنيّون بأنفسهم وبالنساء.
وقوله: "مُسْلِمٍ" أي داخل في الإسلام.
"إِلاَّ بإِحْدَى ثَلاثٍ" يعني بواحدة من الثلاث.
"الثَّيِّبُ الزَّانِي" فالثيب الزاني يحلّ دمه، والثيب هو : الذي جامع في نكاح صحيح، فإذا زنا بعد أن أنعم الله عليه بنعمة النكاح الصحيح صار مستحقاً للقتل، ولكن صفة قتله سنذكرها إن شاء الله تعالى في الفوائد.
ومفهوم قوله "الثَّيِّبُ" أن البكر لايحل دمه إذا زنا، وهو الذي لم يجامع في نكاح صحيح.
"وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ" المقصود به القصاص، أي أنه إذا قتل إنسانٌ إنساناً عمداً قُتِلَ به بالشروط المعروفة.
"وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ" يعني بذلك المرتدّ بأي نوع من أنواع الرّدة.
وقوله: "المُفَارِقُ للجَمَاعَةِ" هذا عطف بيان، يعني أن التارك لدينه مفارق للجماعة خارج عنها.
من فوائد هذا الحديث:
.1احترام دماء المسلمين، لقوله: "لايَحِلُّ دَمُ امرِئٍ مُسلمٍ" وهذا أمر مجمع عليه دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع،قال الله تعالى في القرآن الكريم: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء: 93)
فقتل المسلم المعصوم الدم من أعظم الذنوب، ولهذا أول ما يقضى بين الناس في الدماء.
.2أن غير المسلم يحلّ دمه ما لم يكن معَاهَداً، أومستأمِناً، أو ذميّاً، فإن كان كذلك فدمه معصوم.
والمعاهد: من كان بيننا وبينه عهد، كما جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش في الحديبية.
والمستأمن: الذي قدم من دار حرب لكن دخل إلينا بأمان لبيع تجارته أو شراء أو عمل، فهذا محترم معصوم حتى وإن كان من قوم أعداء ومحاربين لنا، لأنه أعطي أماناً خاصاً.
والذّميّ: وهو الذي يسكن معنا ونحميه ونذبّ عنه، وهذا هو الذي يعطي الجزية بدلاً عن حمايته وبقائه في بلادنا.
إذاً قوله: "لايَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ" يخرج بذلك غير المسلم فإن دمه حلال إلا هؤلاء الثلاثة.
.3حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث يرد كلامه أحياناً بالتقسيم، لأن التقسيم يحصر المسائل ويجمعها وهو أسرع حفظاً وأبطأ نسياناً.
.4أن الثيب الزاني يقتل، برجمه بالحجارة، وصفته: أن يوقف ويرميه الناس بحجارة لاكبيرة ولا صغيرة، لأن الكبيرة تقتله فوراً فيفوت المقصود من الرّجم، والصغيرة يتعذّب بها قبل أن يموت، بل تكون وسطاً، فالثيب الزاني يرجم بالحجارة حتى يموت،سواء كان رجلاً أم امرأة.
فإن قال قائل: كيف تقتلونه على هذا الوجه، لماذا لا يقتل بالسيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ"[112] ؟
فالجواب : أنه ليس المراد بإحسان القتلة سلوك الأسهل في القتل، بل المراد بإحسان القتلة موافقة الشريعة، كما قال الله عزّ وجل: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً )(المائدة: الآية50) فرجم الزاني من القتلة الحسنة، لموافقة الشريعة.
فإن قال قائل: ما الحكمة من كونه يقتل علىهذا الوجه ؟
فالجواب: أن شهوة الجماع لا تختص بعضو معين، بل تشمل كل البدن، فلما تلذذ بدن الزاني المحصن بهذه اللذة المحرّمة كان من المناسب أن يذوق البدن كلّه ألم هذه العقوبة التي هي الحدّ، فالمناسبة إذاً ظاهرة.
لكن بماذا يثبت الزّنا ؟
الجواب: يثبت الزنا بشهادة أربعة رجال مرضيين أنهم رأوا ذكر الزاني في فرج المزني بها ولابدّ، والشهادة على هذا الوجه صعبة جداً، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: إنه لم يثبت الزنا بالشهادة قطّ، وهو في وقته.
والطريق الثاني لثبوت الزنا أن يقرّ الزاني بأنه زنا .
وهل يشترط تكرار الإقرار أربع مرات، أو يكفي الإقرار مرة واحدة، أو يفصل بين ما اشتهر وبين ما لم يشتهر؟
في هذا خلاف بين أهل العلم:
فمن قال لابد من التكرار استدل بقصة ماعز بن مالك رضي الله عنه فإنه أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه زنا، فأعرض عنه، ثم عاد فقال: إنه زنا، فأعرض عنه، ثم عاد فقال: إنه زنا، فأعرض عنه، ثم عاد فقال: إنه زنا،أربع مرات، فقال له: أَبِكَ جُنُونٌ ؟ فقال: لا، فأرسل إلى قومه . هل عهدتم بماعز جنونا ً ؟ فقالوا: لا، فأمر رجلاً أن يستنكهه، أي يشم رائحته هل قد شرب الخمر وهو سكران، فلم يجد فيه شيئاً، ثم أمر به صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَ[113] .
والاستدلال بقصة ماعز التي وردت على هذه الصفة بأنه لابد من تكرار الإقرار في النفس منه شيء، لأن ظاهر القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه الإقرار في أول مرة لكونه شاكّاً فيه حتى استثبت.
أما الذين قالوا يكفي الإقرار مرة واحدة فاستدلوا بقصة المرأة التي زنا بها الأجير عند زوجها، وكان هذا الزاني شاباً، وشاعت القصة وقيل لأبيه إنه يجب أن تفدي ولدك بمائة شاة وجارية، ففعل، فسأل أهل العلم فقالوا: ليس عليك هذا، على ابنك جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة الرجل الرجم، فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "الغَنَمُ وَالوَلِيْدَةُ" أي الجارية "رَدٌّ عَلَيْكَ" أي مردودة عليك، لأنها أخذت بغير حق "وَعَلَى ابنِكَ جَلْدُ مَائَةٍ وَتَغْرِيْبُ عَامٍ" لأنه لم يتزوج "وَاغْدُ يَا أَنِيْسُ إِلَى امْرَأةِ هَذَا فَإِن اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا"[114] فغدا إليها فاعترفت، فرجمها[115] .
ولم يقلّ النبي صلى الله عليه وسلم فإن اعترفت أربع مرات، بل قال: إن اعترفت فارجمها، وهذا يدل على عدم اشتراط تكرار الإقرار، ولأن جميع الحقوق التي يقرّ بها الإنسان على نفسه لا تحتاج إلىتكرار، فهكذا الزنا.
وقال بعض أهل العلم: إن اشتهر الأمر وانتشر بين الناس اكتفي بإقرار مرة واحدة، وإلا فلابد من التكرار، وعللوا ذلك: بأن هذه القصة اشتهرت بين الناس، وأن هذا الأجير زنا بامرأة مستأجره فاستغني بشهرتها عن تكرار الإقرار.
والأقرب أنه لايشترط تكرار الإقرار، إلا إذا كان هناك شبهة، وإلا فأكبر بيّنة وأكبر دليل أن يقرّ الفاعل، فكيف يقرّ وهو بالغ عاقل يدري ما يقول ثم نقول: لا حكم لهذا الإقرار، فلو أقرّ ثلاث مرات لا نعتبره إقراراً.
فالصواب: أن الإقرار مرة واحدة يكفي إلا مع وجود شبهة.
وهل اللواط مثل الزنا؟
فالجواب: نعم مثل الزنا بل أخبث، فاللواط لايشترط أن يكون اللائط أو الملوط به ثيباً، وإنما يشترط أن يكونا بالغين عاقلين، فإذا كانا بالغين عاقلين أقيم عليهما الحد.
والحد: قال فقهاء الحنابلة: الحد كحد الزنا، فيرجم الثيب، ومن ليس بثيبٍ يجلد مائة جلدةويغرّب سنة.
ولكن هذا يحتاج إلى دليل، ولا دليل على هذا إلا تعليل عليل، وهو أن اللواط وطء في فرج محرّم فكان الواجب فيه ما يجب بالزنا.
لكن يقال: هذا قياس مع الفارق، لأن فاحشة اللواط أعظم من فاحشة الزنا.
وقال بعض العلماء: بل يعزر الفاعل والمفعول به تعزيراً فقط، وهذا ليس بصواب لما سيأتي إن شاء الله تعالى في ذكر دليل من يرى وجوب قتلهما بكل حال.
ومن غرائب العلم أني رأيت منقولاً عن بعض العلماء من يقول: لاشيء عليهما اكتفاءً بالرادع الفطري، قال: لأن النفوس لا تقبل هذا إطلاقاً يعني أن يتلوّط رجل برجل، فاكتفي بالرادع الفطري عن الرادع بالعقوبة، وقال: هذا كما لو أن الإنسان أكل عذرة فإنه لا يعاقب، ولو شرب خمراً فإنه يعاقب.
ولكن هذا غلط عظيم على الشريعة،وقياس باطل، لأننا لانسلم أن من أكل عذرة لانعاقبه، بل نعاقبه لأن هذا معصية، والتعزير واجب في كل معصية لاحد فيها ولا كفارة.
وإنما ذكرت هذا القول لأبين أنه قول باطل لاتجوز حكايته، إلا لمن أراد أن يبطله: كالحديث الضعيف لايجوز ذكره إلا لمن أراد أن يبين أنه ضعيف.
والقول الصواب في هذا: إن الفاعل والمفعول به يجب قتلهما بكل حال، لأن هذه الجرثومة في المجتمع إذا شاعت وانتشرت فسد المجتمع كله، وكيف يمكن للإنسان المفعول به أن يقابل الناس وهو عندهم بمنزلة المرأة يُفعل به، فهذا قتل للمعنويات والرجولة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أجمع الصحابة على قتل الفاعل والمفعول به، وقد ورد فيه حديث: "مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الفَاعِلَ وَالمَفْعُولَ بهِ"[116] قال شيخ الإسلام: لكن الصحابة اختلفوا كيف يقتل الفاعل والمفعول به؟
فقيل:يحرقان بالنار، وروي هذا عن أبي بكر رضي الله عنه وذلك لشناعة عملهما، فيعاقبان بأشنع عقوبة وهو التحريق بالنار، ولأن تحريقهما بالنار أشد ردعاً لغيرهما.
وقال بعضهم: يرجمان كما يرجم الثيب الزاني
وقال آخرون: يصعد بهما إلى أعلى شاهق في البلد ثم يرميان ويتبعان بالحجارة بناء على أن قوم لوط فعل الله تعالى بهم هكذا.
وأهم شيء عندنا أنه لابد من قتل الفاعل والمفعول به على كل حال إذا كانا بالغين عاقلين، لأن هذا مرض فتّاك لايمكن التحرّز منه، فأنت مثلاً لو رأيت رجلاً مع امرأة واستنكرت ذلك فممكن أن تقول: من هذه المرأة؟ لكن رجل مع رجل لايمكن، فكل الرجال يمشي بعضهم مع بعض.
إذاً الثيب الزاني دمه حلال، ولكن إذا كان دمه حلالاً فهل لكل واحد أن يقيم عليه الحد؟
فالجواب: لا، ليس لأحد أن يقيم عليه الحد إلا الإمام أو من ينيبه الإمام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "أُغْدُ يَا أَنِيْسُ إِلَى امْرأةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارجُمْهَا"[117] ولو قلنا لكل إنسان أن يقتل هذا الزاني لأن دمه هدر لحصل من الفوضى والشر ما لايعلمه إلا الله عزّ وجل، ولهذا قال العلماء: لاتجوز إقامة الحدود ولا التعزيرات إلا للإمام أو نائبه.
الثاني ممن يباح دمه: "النَّفْسُ بالنَّفسِ" أي إذا قتل الإنسان شخصاً مكافئاً له في الدين والحرية والرّق قتل به.
وعلى قولنا: في الدين وهو أهم شيء لايقتل المسلم بالكافر، لأن المسلم أعلى من الكافر، ويقتل الكافر بالمسلم لأنه دونه.
وهل يشترط أن لايكون القاتل من أصول المقتول، أو لا يشترط؟
فالجواب: قال بعض أهل العلم إنه يشترط أن لايكون القاتل من أصول المقتول والأصول هم: الأب والأم والجد والجدة وما أشبه ذلك، وقالوا: لا يقتل والد بولده واستدلّوا بحديث: "لايُقتَلُ الوَالِدُ بوَلَدِهِ"[118]، وبتعليل قالوا: لأن الوالد هو الأصل في وجود الولد فلا يليق أن يكون الولد سبباً في إعدامه.
وقال بعض أهل العلم: هذا ليس بشرط، وأنه يقتل الوالد بالولد إذا علمنا أنه قتله عمداً، واستدلوا بعموم الحديث: "النَّفْسُ بالنَّفسِ"[119] وعموم قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ)(المائدة: من الآية45) .
وأجابوا عن أدلة الآخرين فقالوا: الحديث ضعيف، ولايمكن أن يقاوم النصوص المحكمة الدّالة على قتل النفس بالنفس.
وأما التعليل فالتعليل عليل، وجه ذلك: أن الوالد إذا قتل الولد ثم قتِلَ به فليس الولد هو السبب في إعدامه، بل السبب في إعدامه فعل الوالد القاتل، فهو الذي جنى علىنفسه، وهذا القول هو الراجح لقوة دليله بالعمومات التي ذكرناها، ولأن هذا من أشدّ قطيعة الرحم، فكيف نعامل هذا القاطع الظالم المعتدي بالرّفق واللين، ونقول: لا قصاص عليه.
فالصواب: أن الوالد يقتل بولده سواء بالذكر كالأب، أو الأنثى كالأم.
"التَّارِكُ لدينِهِ" أي المرتدّ "المُفارقُ للجَمَاعَةِ" المراد بالجماعة أي جماعة المسلمين فالمرتد يقتل .
ولكن هل يستتاب قبل أن يقتل؟
في ذلك خلاف بين العلماء: منهم من قال: لايستتاب، بل بمجرّد أن يثبت كفره فإنه يقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلوهُ"[120] ولم يذكر استتابة.
ومنهم من قال: يستتاب ثلاثة أيام إن كان ممن تقبل توبتهم، لأن المرتدين بعضهم تقبل توبتهم، وبعضهم لاتقبل، فإذا كان ممن تقبل توبته فإننا نستتيبه ثلاثة أيام، أي نحبسه ونقول: لك مهلة ثلاثة أيام فإن أسلم رفعنا عنه القتل، وإن لم يسلم قتلناه.
والصحيح في الاستتابة: أنها ترجع إلى اجتهاد الحاكم، فإن رأى من المصلحة استتابته استتابه، وإلا فلا، لعموم قوله : "مَنْ بَدَّلَ دِيْنَهُ فَاقتُلُوهُ" ولأن الاستتابة وردت عن الصحابة رضي الله عنهم.
وهذا يختلف فقد يكون هذا الرجل الكافر أعلن كفره واستهتر فلاينبغي أن نستتيبه، وقد يكون أخفى كفره وتاب إلى الله ورأينا منه محبة التوبة، فلكل مقام مقال.
وقولنا: يستتاب من تقبل توبته إشارة إلى أن المرتدين قسمان:
قسم تقبل توبتهم، وقسم لاتقبل.
قال أهل العلم: من عظمت ردته فإنه لاتقبل توبته بأن سب الله، أو سب رسوله، أو سب كتابه، أو فعل أشياء منكرة عظيمة في الردة، فإن توبته لاتقبل، ومن ذلك المنافق فإنه لاتقبل توبته، لأن المنافق من الأصل يقول إنه مسلم، فلا تقبل توبته.
وقيل: إن توبته مقبولة ولو عظمت ردته ولو سب الله أو رسوله أو كتابه ولو نافق، وهذا القول هو الراجح، لكن يحتاج إلى تأنٍّ ونظر: هل هذا الرجل يبقى مستقيماً أو لا؟
فإذا علمنا من حاله أنه صادق التوبة قبلنا توبته لعموم قوله تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ) (الزمر: من الآية53) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : "التَّوبَةُ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا"[121] وهذا عام، وهذا القول هو الراجح وله أدلة.
اما المستهزئ فتقبل توبته بدليل قول الله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ* لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة:65-66] ولا عفو إلا بالتوبة.
وفي المنافقين قال الله تعالى(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً)(النساء:145-146) .
فالصواب: أن كل كافر أصلي أو مرتدّ إذا تاب من أي نوع من الكفر فإن توبته مقبولة.
ولكن مثل هؤلاء يحتاجون إلى مراقبة أحوالهم: هل هم صادقون،أو هم يستهزؤون بنا؟ يقولون: إنهم رجعوا إلى الإسلام وهم لم يرجعوا.
وإذا تاب يرتفع عنه القتل، لأن إباحة قتله إنما كانت لكفره، فإذا قبلنا توبته ارتفع الكفرعنه فارتفع قتله إلا من سب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن توبته تقبل لكن يجب أن يقتل، ويقتل مسلماً بحيث نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه مع المسلمين، لكننا لانبقيه حياً. ومن سب الله عزّ وجل إذا تاب فإنه لا يقتل.
فإن قال قائل: على ضوء هذا الكلام أيكون سب الله عزّ وجل دون سب الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
فالجواب: لا والله لا يكون، بل سب الله أعظم، لكن الله تعالى قد أخبرنا أنه عافٍ عن حقه إذا تاب العبد، فإذا تاب علمنا أن الله تاب عليه.
أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لم يقل: من سبّني أو استهزأ بي ثم تاب فأنا أسقط حقي، وعلى هذا فنحن نقتله لأن سب الرسول صلى الله عليه وسلم حق آدمي لم نعلم أنه عفا عنه.
فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عن أناس سبّوه في عهده وارتفع عنهم القتل؟
فالجواب: هذا لا يمنع ما قلنا به لأن الحق حقه، وإذا عفا علمنا أنه أسقط حقه فسقط، لكن بعد موته هل نعلم أنه أسقط حقه؟
الجواب: لا نعلم، ولا يمكن أن نقيس حال الموت علىحال الحياة،لأننا نعلم أن هذا القياس فاسد، ولأننا نخشىأن يكثر سب الرسول صلى الله عليه وسلم لأن هيبة الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته أعظم من هيبته بعد مماته. والله أعلم.
[110] - أخرجه البخاري- كتاب: الديات، باب: قوله تعالى: (والأذن بالأذن والسن...)، (6878). ومسلم – كتاب: القسامة والمحاربين، باب: ما يباح به دم المسلم، (1676)، (25)
[111] - أخرجه – كتاب: العلم، با: ليبلغ العلم الشاهد الغائب، (105). ومسلم – كتاب: القسامة والمحاربين، باب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، (1679)،(29)
[112] - أخرجه مسلم – كتاب: الصيد، باب: الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة، (19559،(57)
[113] - أخرجه البخاري – كتاب الطلاق، باب: الطلاق في الإغلاق والكره، (5271). ومسلم – كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، (1691)، (16)
[114] - أخرجه البخاري – كتاب: الشروط، باب: الشروط التي لا تحل في الحدود، (2724). ومسلم- كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، (1697)،(25)
[115] أخرجه البخاري: كتاب الوكالة، باب الوكالة في الوقف ونفقته وأن يطعم صديقاً له ويأكل بالمعروف، حديث (2314)، وأخرجه مسلم: كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى، (1697)،(25)
[116] - أخرجه الإمام أحمد – مسند آل العباس عن عبدالله بن العباس، ج1/ ص 300 حديث (2732)، وأبو داود- كتاب: الحدود، باب: فيمن عمل عمل قوم لوط، (4462)، والترمذي – كتاب: الحدود، باب: ما جاء في حد اللوطي، (1456) وابن ماجه – كتاب: الحدود، باب: من عمل عمل قوم لوط، (2561)
[117] سبق تخريجه صفحة (169)
[118] أخرجه ابن ماجه: كتاب الديات، باب: لا يقتل الوالد بولده، حديث(2662)،وأخرجه الدارقطني: (3/141) حديث (181)
[119] - أخرجه البخاري - كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: (أن النفس بالنفس)، حديث (6878). وأخرجه مسلم – كتاب: القسامة والمحاربين، باب: ما يباح به دم المسلم، (1676)، (25)
[120] - أخرجه البخاري – كتاب: الجهاد والسير، باب: لا يعذب بعذاب الله، (1458).
[121] في مسلم بمعناه، ولفظه "أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله"، كتاب: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، (121)، (192)
__________________ الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:38 | |
| الحديث الخامس عشر عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرَاً أَو لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)[122] رواه البخاري ومسلم.
الشرح
"مَنْ كَانَ يُؤمِنُ" هذه جملة شرطية، جوابها: "فَليَقُلْ خَيْرَاً أَو لِيَصْمُتْ" ، والمقصود بهذه الصيغة الحث والإغراء على قول الخير أوالسكوت كأنه قال: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فقل الخير أو اسكت.
والإيمان بالله واليوم الآخر سبق ذكرهما.
"فَلَيَقُلْ خَيرَاً" اللام للأمر، والخير نوعان:
خير في المقال نفسه، وخير في المراد به.
أما الخير في المقال: فأن يذكر الله عزّ وجل ويسبّح ويحمد ويقرأ القرآن ويعلم العلم ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهذا خير بنفسه.
وأما الخير لغيره: فأن يقول قولاً ليس خيراً في نفسه ولكن من أجل إدخال السرور على جلسائه، فإن هذا خير لما يترتب عليه من الأنس وإزالة الوحشة وحصول الإلفة، لأنك لو جلست مع قوم ولم تجد شيئاً يكون خيراً بذاته وبقيت صامتاً من حين دخلت إلى أن قمت صار في هذا وحشة وعدم إلفة، لكن تحدث ولو بكلام ليس خيراً في نفسه ولكن من أجل إدخال السرور على جلسائك، فإن هذا خير لغيره.
" أو لِيَصْمُتْ" أي يسكت.
"وَمَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ" أي جاره في البيت، والظاهر أنه يشمل حتى جاره في المتجر كجارك في الدكان مثلاً، لكن هو في الأول أظهر أي الجار في البيت، وكلما قرب الجار منك كان حقه أعظم.
وأطلق النبي صلى الله عليه وسلم الإكرام فقال: "فليُكْرِم جَارَهُ" ولم يقل مثلاً بإعطاء الدراهم أو الصدقة أو اللباس أو ما أشبه هذا، وكل شيء يأتي مطلقاً في الشريعة فإنه يرجع فيه إلى العرف، وفي المنظومة الفقهية:
وكلُّ ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف أحدد
فالإكرام إذاً ليس معيناً بل ما عدّه الناس إكراماً، ويختلف من جار إلى آخر، فجارك الفقير ربما يكون إكرامه برغيف خبز، وجارك الغني لايكفي هذا في إكرامه، وجارك الوضيع ربما يكتفي بأدنى شيء في إكرامه، وجارك الشريف يحتاج إلى أكثر
والجار: هل هو الملاصق، أو المشارك في السوق، أو المقابل أو ماذا؟
هذا أيضاً يرجع فيه إلى العرف، لكن قد ورد أن الجار أربعون داراً من كل جانب[123] ،وهذا في الوقت الحاضر صعب جداً.
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أربعون داراً مساحتهم قليلة، لكن في عهدنا أربعون داراً قرية، فإذا قلنا إن الجار أربعون داراً والبيوت قصور صار فيها صعوبة، ولهذا نقول: إن صح الحديث فهو مُنَزَّل على الحال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يصح رجعنا إلى العرف.
" وَمَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليُكرِمْ ضَيْفَهُ" الضيف هو النازل بك، كرجل مسافر نزل بك، فهذا ضيف يجب إكرامه بما يعد إكراماً.
قال بعض أهل العلم - رحمهم الله -: إنما تجب الضيافة إذا كان في القرى أي المدن الصغيرة، وأما في الأمصار والمدن الكبيرة فلايجب، لأن هذه فيها مطاعم وفنادق يذهب إليها ولكن القرى الصغيرة يحتاج الإنسان إلىمكان يؤويه.
ولكن ظاهر الحديث أنه عام: "فَليُكْرِمْ ضَيْفَهُ" .
من فوائد هذا الحديث:
.1 وجوب السكوت إلا في الخير، لقوله: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليَقُلْ خَيرَاً أو لِيَصمُتْ" هذا ظاهر الحديث، ولكن ظاهر أحوال الناس أن ذلك ليس بواجب، وأن المقال ثلاثة أقسام: خير، وشر، ولغو.
فالخير: هو المطلوب. والشر: محرم، أي أن يقول الإنسان قولاً شراً سواء كان القول شراً في نفسه أو شراً فيما يترتب عليه. واللغو: ما ليس فيه خير ولاشرّ فلا يحرم أن يقول الإنسان اللغو، ولكن الأفضل أن يسكت عنه.
ويقال: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وكم كلمة ألقت في قلب صاحبها البلاء، والكلمة بيدك ما لم تخرج من لسانك، فإن خرجت من لسانك لم تملكها.
وإذا دار الأمر بين أن أسكت أو أتكلم فالمختار السكوت،لأن ذلك أسلم.
.2الحث على حفظ اللسان لقوله: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرَاً أَوْ لِيَصْمُتْ"[124] ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه قال له: أَلا أُخْبِرُكَ بِمِلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قَالَ: بَلَى يَارَسُولَ اللهِ، فَأَخذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا ، قَالَ: يَارَسُولَ اللهِ،وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ - الجملة استفهامية - قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّار عَلَى وُجُوهِهِم، أَو قَالَ: "عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ"[125] فاحرص على أن لاتتكلم إلا حيث كان الكلام خيراً، فإن ذلك أقوى لإيمانك وأحفظ للسانك وأهيب عند إخوانك.
.3وجوب إكرام الجار لقوله: "مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ فَليُكرِمْ جَارَهُ" وهذا الإكرام مطلق يرجع فيه إلى العرف، فتارة يكون إكرام الجار بأن تذهب إليه وتسلم عليه وتجلس عنده. وتارة تكون بأن تدعوه إلى البيت وتكرمه. وتارةبأن تهدي إليه الهدايا، فالمسألة راجعة إلى العرف.
.4أن دين الإسلام دين الألفة والتقارب والتعارف بخلاف غيره، فإنك ترى أهل الملة الواحدة لايكاد يعرف بعضهم بعضاً، متفرقون، حتى الجار لايدري ماذا يحدث لجاره.
.5وجوب إكرام الضيف بما يعد إكراماً، وذلك بأن تتلقاه ببشر وسرور، وتقول: ادخل حياك الله وما أشبه ذلك من العبارات.
وظاهر الحديث أنه لافرق بين الواحد والمائة، لأن كلمة (ضيف) مفرد مضاف فيعم، فإذا نزل بك الضيف فأكرمه بقدر ما تستطيع.
لكن إذا كان بيتك ضيقاً ولامكان لهذا الضيف فيه ولست ذا غنى كبير بحيث تعد بيتاً للضيوف، فهل يكفي أن تقول: يا فلان بيتي ضيق والعائلة ربما إذا دخلت أقلقوك، ولكن خذ مثلاً مائة ريال أو مائتين - حسب الحال - تبيت بها في الفندق فهل يكفي هذا أو لايكفي ؟
الجواب: للضرورة يكفي، وإلا فلا شك أنك إذا أدخلته البيت ورحبت به وانطلق وجهك معه أنه أبلغ في الإكرام،ولكن إذا دعت الضرورة إلى مثل ما ذكرت فلابأس، فهذا نوع من الإكرام، والله أعلم.
[122] سبق تخريجه صفحة (158)
[123] - أخرجه البخاري في الأدب المفرد – (1/51)، حديث (109)، والبيهقي في سننه الكبرى – (ج6/ ص176)، حديث (12391)
[124] سبق تخريجه صفحة (158)
[125] - أخرجه الترمذي – كتاب: الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة، (2616)، وابن ماجه – كتاب: الفتن، باب: كف اللسان، (3973)، والإمام أحمد في مسنده – (ج5/ص231)، مسند الأنصار عن معاذ بن جبل، (22366)، والنسائي في السنن الكبرى – (ج6/ص429)، كتاب: السير، باب: قوله تعالىL تتجافى جنوبهم عن المضاجع) وقوله: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة عين)، (11394) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:39 | |
| الحديث السادس عشر
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : أَوصِنِيْ، قَال : لاَ تَغْضَبْ[126]. رواه البخاري
الشرح
لم يبيَّن هذا الرجل، وهذا يأتي كثيراً في الأحاديث لايبيّن فيها المبهم، وذلك لأن معرفة اسم الرجل أو وصفه لايُحتاج إليه، فلذلك تجد في الأحاديث: أن رجلاً قال كذا، وتجد بعض العلماء يتعب تعباً عظيماً في تعيين هذا الرجل، والذي أرى أنه لاحاجة للتعب مادام الحكم لايتغير بفلان مع فلان.
" قَالَ: يَارَسُولَ اللهِ أَوصِنِي" الوصية: هي العهد إلى الشخص بأمر هام، كما يوصي الرجل مثلاً على ثلثه أوعلى ولده الصغير أو ما أشبه ذلك.
" قَالَ: لاَتَغْضَبْ" الغضب: بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم[127] فيغلي القلب، ولذلك يحمرّ وجهه وتنتفخ أوداجه وربما يقف شعره.
فهل مراد الرسول صلى الله عليه وسلم لاتغضب أي لايقع منك الغضب، أو المعنى: لاتنفذ الغضب ؟
لننظر: أما الأول فإن ضبطه صعب،لأن الناس يختلفون في هذا اختلافاً كبيراً، لكن لامانع أن نقول: أراد قوله: "لاَ تَغْضَبْ" أي الغضب الطبيعي، بمعنى أن توطن نفسك وتبرّد الأمر على نفسك.
وأما المعنى الثاني: وهو أن لا تنفذ مقتضى الغضب فهذا حق، فينهى عنه.
إذاً كلمة "لاَ تَغْضَبْ" هل هي نهي عن الغضب الذي هو طبيعي أو هي نهي لما يقتضيه الغضب ؟
إن نظرنا إلى ظاهر اللفظ قلنا: "لاَ تَغْضَبْ" أي الغضب الطبيعي، لكن هذا فيه صعوبة، وله وجه يمكن أن يحمل عليه بأن يقال: اضبط نفسك عند وجود السبب حتى لاتغضب.
والمعنى الثاني لقوله: لاَ تَغْضَبْ أي لا تنفذ مقتضى الغضب، فلو غضب الإنسان وأراد أن يطلّق امرأته، فنقول له: اصبر وتأنَّ.
فَرَدَّدَ الرَّجُلُ مِرَارَاً ، - أَيْ قَالَ: أَوْصِنِي - قَالَ: "لاَ تَغْضَبْ"
من فوائد هذا الحديث:
.1حرص الصحابة رضي الله عنهم على ماينفع، لقوله: "أَوصِنِيْ" ، والصحابة رضي الله عنهم إذا علموا الحق لايقتصرون على مجرّد العلم، بل يعملون، وكثير من الناس اليوم يسألون عن الحكم فيعلمونه ولكن لايعملون به، أما الصحابة رضي الله عنهم فإنهم إذا سألوا عن الدواء استعملوا الدواء، فعملوا.
.2 أن المخاطب يخاطب بما تقتضيه حاله وهذه قاعدة مهمة، فإذا قررنا هذا لايرد علينا الإشكال الآتي وهو أن يقال: لماذا لم يوصه بتقوى الله عزّ وجل،كما قال الله عزّ وجل: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ )(النساء: الآية131)
فالجواب: أن كل إنسان يخاطب بما تقتضيه حاله، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عرف من هذا الرجل أنه غضوب فأوصاه بذلك.
مثال آخر: رجل أتى إليك وقال: أوصني، وأنت تعرف أن هذا الرجل يصاحب الأشرار، فيصح أن تقول: أوصيك أن لاتصاحب الأشرار، لأن المقام يقتضيه.
ورجل آخر جاء يقول: أوصني، وأنت تعرف أن هذا الرجل يسيء العشرة إلى أهله، فتقول له: أحسن العشرة مع أهلك.
فهذه القاعدة التي ذكرناها يدل عليها جواب النبي صلى الله عليه وسلم ، أي أن يوصى الإنسان بما تقتضيه حاله لا بأعلى ما يوصى به، لأن أعلى ما يوصى به غير هذا.
.3النهي عن الغضب، لقوله: "لاَ تَغْضَبْ" لأن الغضب يحصل فيه مفاسد عظيمة إذا نفذ الإنسان مقتضاه، فكم من إنسان غضب فطلّق فجاء يسأل، وكم من إنسان غضب فقال: والله لا أكلم فلاناً فندم وجاء يسأل.
فإن قال قائل: إذا وجد سبب الغضب، وغضبَ الإنسان فماذا يصنع؟
نقول: هناك دواء - والحمد لله - لفظي وفعلي .
أما الدواء اللفظي: إذا أحس بالغضب فليقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد غضب غضباً شديداً فقال: "إِنِّي أَعلَمُ كَلِمَةً لوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَايَجِد - يعني الغضب - لَوقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ"[128] .
وأما الدواء الفعلي: إذا كان قائماً فليجلس، وإذا كان جالساً فليضطّجع،لأن تغير حاله الظاهر يوجب تغير حاله الباطن، فإن لم يفد فليتوضّأ، لأن اشتغاله بالوضوء ينسيه الغضب، ولأن الوضوء يطفئ حرارة الغضب.
وهل يقتصر على هذا؟
الجواب: لايلزم الاقتصار على هذا، قد نقول إذا غضبت فغادر المكان، وكثير من الناس يفعل هذا، أي إذا غضب خرج من البيت حتى لايحدث ما يكره فيما بعد .
.4أن الدين الإسلامي ينهى عن مساوئ الأخلاق لقوله: "لاَ تَغضبْ" والنهي عن مساوئ الأخلاق يستلزم الأمر بمحاسن الأخلاق، فعوّد نفسك التحمل وعدم الغضب، فقد كان الأعرابي يجذب رداء النبي صلى الله عليه وسلم حتى يؤثر في رقبته صلى الله عليه وسلم ثم يلتفت إليه ويضحك[129] مع أن هذا لو فعله أحد آخر فأقل شيء أن يغضب عليه،فعليك بالحلم ما أمكنك ذلك حتى يستريح قلبك وتبتعد عن الأمراض الطارئة من الغضب كالسكر، والضغط وما أشبهه. والله المستعان
[126] أخرجه البخاري كتبا: الأدب، باب: الحذر من الغضب، (6116)
[127] أخرجه الترمذي كتاب: الفتن، باب: ما جاء فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة، (2191)، وأحمد بن حنبل – مسند المكثرين عن أبي سعيد الخدري، (3/61)، حديث (11608).
[128] أخرجه البخاري كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، (3282)، ومسلم – كتاب: البر والصلة والآداب، باب: فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب، (2610)،(109)
[129] أخرجه أبو داود كتاب: الأدب، باب: في الحلم وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، (4775). والنسائي في المجتبى كتاب: القسامة، باب: القود من الجبذة، (4776) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:39 | |
| الحديث السابع عشر
عَنْ أَبِي يَعْلَى شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ. فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيْحَتَهُ)[130] رواه مسلم
الشرح
" إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانُ عَلَى كُلِّ شَيء" أي في كل شيء، ولم يقل: إلى كل شيء،بل قال: على كل شيء، يعني أن الإحسان ليس خاصاً بشيء معين من الحياة بل هو في جميع الحياة.
ثم ضرب أمثلة فقال: "فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا القِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ" والفرق بينهما: أن المقتول لايحل بالقتل كما لو أراد إنسان أن يقتل كلباً مؤذياً، فنقول: أحسن القتلة. وكذا إذا أراد أن يقتل ثعباناً فنقول: أحسن القتلة، وإذا ذبح فنقول: أحسن الذبحة، وهذا فيما يؤكل، أي يحسن الذبحة بكل ما يكون فيه الإحسان، ولهذا قال: "وَليُحدّ أحدكم شَفْرَته" أي السكين، وحدُّها يعني حكها حتى تكون قوية القطع، أي يحكها بالمبرد أو بالحجر أو بغيرهما حتى تكون حادة يحصل بها الذبح بسرعة.
" وَلْيُرِحْ ذَبِيْحَتَهُ" اللام للأمر، أي وليرح ذبيحته عند الذبح بحيث يمر السكين بقوة وسرعة .
من فوائد هذا الحديث:
.1رأفة الله عزّ وجل بالعباد، وأنه كتب الإحسان على كل شيء. ويدخل في ذلك الإحسان إلى شخص تدله الطريق، وكذا إطعام الطعام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من القتل والذبح مجرد أمثلة.
.2الحث على الإحسان في كل شيء، لأن الله تعالى كتب ذلك أي شرعه شرعاً مؤكداً.
.3أنك إذا قتلت شيئاً يباح قتله فأحسن القتلة، ولنضرب لهذا مثلاً: رجل آذاه كلب من الكلاب وأراد أن يقتله، فله طرق في قتله كأن يقتله بالرصاص، أو برضّ الرأس، أو بإسقائه السم، أو بالصعق بالكهرباء، أنواع كثيرة من القتل، فنقتله بالأسهل، وأسهلها كما قيل: الصعق بالكهرباء، لأن الصعق بالكهرباء لايحس المقتول بأي ألم ولكن تخرج روحه بسرعة من غير أن يشعر، فيكون هذا أسهل شيء.
يستثنى من ذلك القصاص، ففي القصاص يُفعل بالجاني كما فُعِل بالمقتول ، ودليل ذلك قصة اليهودي الذي رضّ رأس الجارية، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرَضَّ رأسه بين حجرين[131] .
.4أن الله عزّ وجل له الأمر وإليه الحكم، لقوله: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ" وكتابة الله تعالى نوعان: كتابة قدرية، وكتابة شرعية.
الكتابة القدرية لابد أن تقع، والكتابة الشرعية قد تقع من بني آدم وقد لاتقع.
مثال الأول: قول الله تعالى: ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الانبياء:105) فهذه كتابة قدرية.
ومثال الثاني: قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ )(البقرة: الآية216) أي كتب كتابة شرعية.
وقوله: (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) يجب أن تعلم أن الضمير في قوله: (وَهُوَ) يعود على القتال وليس يعود على الكتابة، لأن الصحابة رضي الله عنهم لايمكن أن يكرهوا فريضة الله لكن يكرهون القتل ويقاتلون فيقتلون.
وفرق بين أن يكره الإنسان حكم الله، أو أن يكره المحكوم به.
ومن الكتابة الشرعية قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَام)(البقرة: الآية183) أي كتب شرعاً.
.5أن الإحسان شامل في كل شيء، كل شيء يمكن فيه ا لإحسان لقوله: إِنَّ الله كَتَبَ الإِحسَانَ عَلَى كِلِّ شَيء
.6حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم بضرب الأمثال، لأن الأمثلة تقرّب المعاني في قوله: إِذَا قَتَلتُمْ.. إِذَا ذَبَحْتُمْ .
.7وجوب إحسان القِتلة،لأن هذا وصف للهيئة لا للفعل.
وإحسان القتلة على القول الراجح هو اتباع الشرع فيها سواء كانت أصعب أو أسهل، وعلى هذا التقدير لا يرد علينا مسألة رجم الزاني الثيّب.
.8أن نحسن الذبحة، بأن نذبحها على الوجه المشروع، والذبح لابد فيه من شروط:
(1) أهلية الذابح بأن يكون مسلماً أو كتابياً، فإن كان وثنياً لم تحل ذبيحته، وإن كان مرتدّاً لم تحل ذبيحته، وعلى هذا فتارك الصلاة لاتحل ذبيحته لأنه ليس مسلماً ولا كتابياً.
فإذا قال قائل: ما هو الدليل على أن ذبيحة الكتابي حلال؟
فالجواب: قول الله عزّ وجل: ( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ)(المائدة: الآية5) قال ابن عباس رضي الله عنهما: طعامهم: ما ذبحوه[132]، والكتابي: هو اليهودي أو النصراني
(2) أن تكون الآلة مما يباح الذبح بها، وهي: كل ما أنهر الدم من حديد أو فضة أو ذهب أو حصى أو قصب، أي شيء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ[133] ومعنى: أَنْهَرَ الدَّمَ أي أساله. فلو أن إنساناً ذبح بحجر له حد وأنهر الدم، فالذبيحة حلال، إلا أنه يستثنى شيئان:
السن، والظفر، علل النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ، وَأَمَّا الظِّفْرُ فَمُدَى الحَبَشَة أي سكاكين الحبشة.
قوله: "أَمَّا السِّنُّ فَعَظمٌ" أخذ من هذا بعض أهل العلم أن جميع العظام لاتحلّ الذكاة بها، قالوا: لأن العلة أعم من المعين وهو المعلول، لأنه لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على السن لقال: أما السن فسن، لكن قال: "أَمَّا السِّنُّ فَعَظمٌ" فالعلة أعم، وعلى هذا فجميع العظام لاتحل التذكية بها.
والحكمة واضحة، لأن العظم إن كان من ميتة فلا يصح أن يُذكى به، لأن التذكية تطهير والميتة نجسة. وإن كان العظم من طاهرة كعظم شاة مذكاة فلا تحل التذكية به، لأن عظم المذكاة طعام الجن، والتذكية به يفسده على الجن، لأنه سوف يتلوث بالدم النجس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للجن الذين وفدوا عليه: "لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ تَجِدُونَهُ أَوفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمَاً"[134] .
قد يقول قائل: أنا أمر بالعظام تلوح ليس عليها لحم، فما الجواب؟
الجواب سهل: أولاً: نقول: أتؤمن بالله ورسوله؟ فسيقول: نعم، نقول: هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وعليك أن تؤمن بذلك، سواء رأيت أم لم ترَ.
ثانياً: عالم الجن عالم غيبي، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل الذي لم يصل الصبح أنه: بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنِهِ[135] .
إذاً يستثنى مما ينهر الدم كل عظم.
أما الظفر: فقد علل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنه مُدى الحبشة، أي سكاكينها، ونحن منهيون أن نتشبه بالأعاجم، والحبشة أعاجم حيث دخلت عليهم العربية بعد الفتوحات الإسلامية.
فإذا قال قائل: لو وجدنا سكاكين لايستعملها إلا الحبشة فهل تحل التذكية بها؟
فالجواب: نعم.
فإذا قال قائل: كيف تقولون العبرة بعموم العلة في قوله: أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ ولا تقولون بعموم العلة هنا؟
فالجواب: أن أظفار الحبشة متصلة بالبدن، وجعلها مدى يستلزم أن لاتقص ولا تقلم، وهذا خلاف الفطرة، لأن الإنسان إذا عرف أن أظافره ستكون مدى سيبقيها، لأنه ربما يحتاجها، فتبين الفرق.
وهذا تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم عن مشابهة الأعاجم، وعن اتخاذ الأظافر.
(3) إنهار الدم أي إسالته، ويكون إنهار الدم بقطع الودجين وهما العرقان الغليظان المحيطان بالحلقوم، وهذان العرقان متصلان بالقلب فإذا قطعا انهال الدم بكثرة وغزارة، ثم ماتت الذبيحة بسرعة.
والدليل على إنهار الدم قول النبي صلى الله عليه وسلم : "مَا أَنهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ فاشترط إنهار الدم".
هل يشترط مع قطع الودجين قطع الحلقوم والمريء، لأن الذي في الرقبة أربعة أشياء: الودجان - اثنان - والحلقوم، والمريء، فهل يشترط قطع الأربعة؟
فالجواب: قطع الأربعة لاشك أنه أولى وأطهر وأذكى، لكن لو اقتصر على قطع الودجين فالصحيح أن الذبيحة حلال، ولو اقتصر على قطع المريء والحلقوم فالصحيح أنها حرام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شريطة الشيطان[136]، وهي التي تذبح ولاتفرى أوداجها.
وهل يشترط أن يكون قطع الحلقوم من نصف الرقبة، أو من أسفلها، أومن أعلاها؟
الجواب: لايشترط، المهم أن يكون ذلك في الرقبة سواء من أعلاها مما يلي الرأس، أو من أسفلها مما يلي النحر، أو من وسطها.
(4) ذكر اسم الله عليها عند الذبح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: مَا أَنهرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ فَكُلْ فإذا كان إنهار الدم شرطاً فكذلك التسمية شرط،بل إن الله تعالى أكد هذا بقوله: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنه لفِسْقُ)(الأنعام: الآية121) فإذا ذبح إنسان ذبيحة ولم يسمّ فالذبيحة حرام.
فإذا نسي أن يسمي فإنها حرام، لأن الشرط لايسقط بالنسيان بدليل أن الرجل لو صلى محدثاً ناسياً فصلاته غير صحيحة، ولأن الله تعالى قال: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ)[الأنعام:121] وأطلق بالنسبة للذابح.
فإذا قال قائل: فهمنا أن التسمية شرط، وأنه لو تركها سهواً أو نسياناً أو عمداً فالذبيحة حرام، لكن ماذا تقولون في قول الله تعالى: ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )(البقرة: الآية286) فقال الله: قد فعلت[137]؟
نقول: نحن لانؤاخذ هذا الذي ذبح الذبيحة ونسي أن يسمّي، ونقول: ليس عليه إثم، لكن بقي الآكل إذا جاء يريد أن يأكل من هذه وسأل: أذكر اسم الله عليها أم لا؟
فيقال له: لم يذكر اسم الله عليها، إذاً لا يأكل، لكن لو فرض أن هذا أكل من هذه الذبيحة ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه.
فإن قال قائل:إذا قلتم إن هذه البعير التي تساوي ألف ريال بأنها حرام لمَّا نسي أن يسمي عليها فإنه يلزم منه أن تفسدوا أموال الناس؟
فالجواب: نحن لم نُضع المال، لأن كل شيء متروك بأمر الله فتركه ليس إضاعة،بل هو طاعة لله عزّ وجل، ألسنا نطيع الله ونعطي الزكاة وهي ربع عشر أموالنا، فلو كان عند الرجل أربعين مليوناً فزكاته مليون، فما دمنا تركنا هذه الذبيحة التي لم يسمّ الله عليها فإننا لم نضع المال في الواقع، بل وضعناه في حلِّه ومَحلِّه
ثانياً: إذا حرمناه من الذبيحة هذه المرة فلا يمكن أن ينسى بعد ذلك أبداً، بل يمكن أن يسمي عشر مرات .
ولهذا اعترض بعض الناس على قطع يد السارق وقال: إننا لو قطعنا يد السارق لكان نصف الشعب أقطع؟.
فنقول له: أنت الآن أقررت بأن نصف شعبك سُرَّاقٌ، ولكننا نقول له: لو قطعت سارقاً واحداً لانتهى آلاف السرّاق.
فهذا الرجل الذي نسي التسمية وقلنا له: الذبيحة حرام لن ينسى في المستقبل ولدينا آية محكمة قال الله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام:121]
يستثنى من قولنا: أن يقطع الودجين وهما في الرقبة ما ليس مقدوراً عليه من الحيوان،فالذي ليس مقدوراً عليه يحل بطعنه في أي موضع كان من بدنه، فلو ندّ لنا بعير - أي هرب - وعجزنا عن إدراكه ورميناه بالرصاص وأصابت الرصاصة بطنه وخرقت قلبه ومات، فإنه يكون حلالاً لأنه غير مقدور عليه.
وكذلك لو سقط في بئر ولم نتمكن من النزول إليه للننحره ورميناه وأصابت الرصاصة أي مكان من بدنه فمات فهو حلال.
ومن فوائد هذا الحديث:
1. -وجوب حد الشفرة، لأن ذلك أسهل للذبيحة، ومعنىإحدادها: أن يمسحها بشيء يجعلها حادة، فإن ذبح بشفرةكالّة أي ليست بجيدة ولكن قطع ما يجب قطعه فالذبيحة حلال لكنه آثم حيث لم يحد الشفرة.
وهل يحد الشفرة أمام الذبيحة؟
الجواب: لا يحد الشفرة أمامها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم[138] ،أي تغطى.
ولأنه إذا حدها أمامها فهي تعرف، ولهذا أحياناً إذا حد الشفرة أمام الذبيحة هربت خوفاً من الذبح وعجزوا عنها.
.2وجوب إراحة الذبيحة وذلك بسرعة الذبح، فلا يبقى هكذا يحرحر بل بسرعة لأنه أريح لها.
ويبقى النظر: هل نجعل قوائمها الأربع مطلقة، أو نمسك بها؟
فالجواب: نجعلها مطلقة ونضع الرِّجل على صفحة العنق لئلا تقوم، وتبقى الأرجل والأيدي مطلقة، فهذا أريح للذبيحة من وجه، وأشد إفراغاً للدم من وجه آخر، لأنه مع الحركة والاضطراب يخرج الدم.
وما يفعله بعض الناس الآن من كونهم إذا أضجعوا الشاة وأرادوا الذبح بركوا عليها وأمسكوا بيديها ورجليها. فهذا تعذيب لها.
وبعضهم يأخذ بيدها اليسرى ويلويها من وراء العنق، وهذا أشد، فنقول: ضع رجلك على صفحة العنق واذبح ودعها تتحرك وتضطرب مع بقاء رجلك على صفحة العنق حتى تموت.
فإن قال قائل: هل من إراحتها ما يفعله بعض الناس بأن يكسر عنقها قبل أن تموت من أجل سرعة الموت؟
فالجواب: لايجوز هذا، لأن في كسر عنقها إيلاماً شديداً لها، ونحن لسنا في حاجة إلى هذا الإيلام، بل ننتظر حتى يخرج الدم، وإذا خرج الدم انتهى كل شيء.
.3إذا أراد الإنسان أن يؤدب أهله، أو ولده فليؤدب بإحسان؟
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَن لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدَاً تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضرِبُوهُنَّ ضَرْبَاً غَيْرَ مُبَرِّحٍ[139] فنقول:حتى في التأديب إذا أدبت فأحسن التأديب ولاتؤدّب بعنف. وبعض الناس يؤدّب بعنف يظن أن ذلك أنفع، وليس هكذا، بل اضرب ضرباً لاتسرف فيه.
ولهذا قال العلماء في كتاب الجنايات: لو أنه ضرب ولده ضرباً أسرف فيه ومات ضمنه، أما إذا أدّبه تأديباً عادياً بدون عنف ثم مات فلا ضمان عليه. والله أعلم.
[130] سبق تخريجه صفحة (167)
[131] أخرجه البخاري كتاب: الخصومات، باب: ما يذكر في الإشخاص والملازمة، (2413)، ومسلم – كتاب: القسامة والمحاربين، باب: ثبوت القصاص في القتل وغيره من المحددات والمثقلات وقتل الرجل بالمرأة، (1672)، (117)
[132] أخرجه البخاري كتاب: الذبائح والصيد، باب: أهل الكتاب، (5507).
[133] أخرجه البخاري كتاب: الشركة، باب: قسمة الغنم، (2488)، ومسلم – كتاب الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر وسائر العظام، (1968)، (20)
[134] أخرجه مسلم كتاب: الصلاة، باب: الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، (450)، (150).
[135] أخرجه البخاري كتاب: أبواب التهجد، باب: إذا نام ولم يصل بال الشيطان في أذنه، (1144)، ومسلم – كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، (774)، (205)
[136] أخرجه أبو داود كتاب: الضحايا، باب: في المبالغة في الذبح، (2826)، والإمام أحمد – ج1/ص 289، (2618). والشريطة: قال الخطابي في "معالم السنن" ج4/ص 281: إنما سمي هذا شريطة الشيطان من أجل أن الشيطان هو الذي يحملهم على ذلك، ويحسن هذا الفعل عندهم، وأخذت الشريطة من الشرط، وهو شق الجلد بالمبضع ونحوه، وكأنه قد اقتصر على شرطه بالحديد دون ذبحه والإتيان بالقطع على حلقه.
[137] - أخرجه مسلم – كتاب: الإيمان، باب: أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، (126)، (200)
[138] سبق تخريجه صفحة (167)
[139] أخرجه مسلم كتاب: الحج، باب: حجة النبي صلى الله عليه وسلم، (1218)، (147) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:39 | |
| الحديث الثامن عشر
عَنْ أَبِيْ ذَرٍّ جُنْدُبِ بنِ جُنَادَةَ وَأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُعَاذِ بِنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)[140] رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وفي بعض النسخ: حسنٌ صحيح.
الشرح
قوله: "اتَّقِ اللهَ" أي اتخذ وقاية من عذاب الله عز وجل، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
" حَيْثُمَا كُنْتَ" حيث: ظرف مكان، أي في أي مكان كنت سواء في العلانية أو في السر، وسواء في البيت أو في السوق، وسواء عندك أناس أو ليس عندك أناس.
" وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا" (أتبع) فعل أمر، و (السيئة) مفعول أول، و(الحسنة) مفعول ثان.
" تَمْحُهَا" جواب الأمر، ولهذا جزمت، لأن جواب الأمر يكون مجزوماً، ولو لم تكن مجزومة لقيل: تمحوها.
والمعنى: إذا فعلت سيئة فأتبعها بحسنة،فهذه الحسنة تمحو السيئة.
واختلف العلماء - رحمهم الله - هل المراد بالحسنة التي تتبع السيئة هي التوبة، فكأنه قال: إذا أسأت فتب، أو المراد العموم؟
الصواب: الثاني، أن الحسنة تمحو السيئة وإن لم تكن توبة، دليل هذا قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات)(هود: الآية114) ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم رجل وقال: إنه أصاب من امرأة ما يصيب الرجل من امرأته إلا الزنا، وكان قد صلى معهم الفجر، فقال: أصليت معنا صلاة الفجر؟ قال: نعم، فتلا عليه الآية ( إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات ) [هود:114][141] وهذا يدل على أن الحسنة تمحو السيئة وإن لم تكن هي التوبة.
" وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا" فبين النتيجة هي أنها تمحوها.
" وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ" أي عامل الناس بخلق حسن.
والخُلُق: هو الصفة الباطنة في الإنسان، والخَلْقُ: هو الصفة الظاهرة،والمعنى: عامل الناس بالأخلاق الحسنة بالقول وبالفعل.
فما هو الخلق الحسن؟
قال بعضهم: الخلق الحسن: كف الأذى، وبذل الندى، والصبر على الأذى - أي على أذى الغير - والوجه الطلق.
كف الأذى منك للناس.
بذل الندى أي العطاء.
الصبر على الأذى لأن الإنسان لايخلو من أذية من الناس.
الوجه الطلق: طلاقة الوجه.
وضابط ذلك ما ذكره الله عزّ وجل في قوله: (خُذِ الْعَفْوَ ) [الأعراف:199] أي خذ ما عفا وسهل من الناس، ولاترد من الناس أن يأتوك علىما تحب لأن هذا أمر مستحيل، لكن خذ ما تيسر(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199] وهل الخلق الحسن جِبْلِيٌّ أو يحصل بالكسب؟
الجواب: بعضه جبلي، وبعضه يحصل بالكسب، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد قيس: "إِنَّ فِيْكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الحِلْمُ وَالأَنَاةُ" قال: يارسول الله أخلقين تخلّقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ قال: "بَلْ جَبَلَكَ اللهُ عَلَيْهِمَا" قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب[142].
فالخلق الحسن يكون طبيعياً بمعنى أن الإنسان يمنّ الله عليه من الأصل بخلق حسن. ويكون بالكسب بمعنى أن الإنسان يمرّن نفسه على الخلق الحسن حتى يكون ذا خلق حسن.
والعجيب أن الخلق الحسن يُكسِب الإنسان الراحة والطمأنينة وعدم القلق لأنه مطمئن من نفسه في معاملة غيره.
من فوائد هذا الحديث:
.1وجوب تقوى الله عزّ وجل حيثما كان الإنسان، لقوله: "اتَّقِ الله حَيْثُمَا كُنْتَ" وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه سواء كنت في العلانية أو في السر.
وأيهما أفضل: أن يكون في السر أو في العلانية؟
وفي هذا تفصيل: إذا كان إظهارك للتقوى يحصل به التأسّي والاتباع لما أنت عليه فهنا إعلانها أحسن وأفضل، ولهذا مدح الله الذين ينفقون سرّاً وعلانية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَومِ القِيَامَةِ"[143]
أما إذا كان لايحصل بالإظهار فائدة فالإسرار أفضل،لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يظلّهم الله في ظله: "رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِيْنُهُ"[144].
وهل الأفضل في ترك المعاصي إعلانه أو إسراره؟
يقال فيه ما قيل في الأوامر، فمثلاً إذا كان الإنسان يريد أن يدخل في عمل فقيل له:إنه يشتمل على محرم كالأمور الربوية فتركه جهاراً، فذلك أفضل لأنه يُتأسّى به، وأما إذا كان الأمر لايتعدى إلى الغير ولا ينتفع به فالإسرار أفضل.
فإن قال قائل: قوله صلى الله عليه وسلم : "اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ" هل يشمل فعل الأوامر في أماكن غير لائقة كالمراحيض مثلاً؟
الجواب: لا تفعل الأوامر في هذه الأماكن، ولكن انوِ بقلبك أنك مطيع لله عزّ وجل ممتثل لأمره مجتنب لنهيه.
.2أن الحسنات يذهبن السيئات لقوله: أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا.
.3 فضل الله عزّ وجل على العباد وذلك لأننا لو رجعنا إلى العدل لكانت الحسنة لاتمحو السيئة إلا بالموازنة، وظاهر الحديث العموم.
وهل يُشترط أن ينوي بهذه الحسنة أنه يمحو السيئة التي فعل؟
فالجواب: ظاهر الحديث: لا، وأن مجرد فعل الحسنات يذهب السيئات، وهذا من نعمة الله عزّ وجل على العباد ومن مقتضى كون رحمته سبقت غضبه.
.4-الحث على مخالقة الناس بالخلق الحسن، لقوله: "وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ".
فإن قيل: معاملة الناس بالحزم والقوة والجفاء أحياناً هل ينافي هذا الحديث أو لا؟
فالجواب: لا ينافيه، لأنه لكل مقام مقال، فإذا كانت المصلحة في الغلظة والشدة فعليك بها، وإذا كان الأمر بالعكس فعليك باللين والرفق، وإذا دار الأمر بين اللين والرفق أو الشدة والعنف فعليك باللين والرفق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللهَ رَفِيْقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ"[145] ولقد جرت أشياء كثيرة تدل على فائدة الرفق ومن ذلك: مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: السام عليك يامحمد - والسام يعني الموت - فقالت عائشة رضي الله عنها : عليك السام واللعنة - جزاءً وفاقاً وزيادة أيضاً - فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "إِنَّ اللهَ رَفِيْقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الكَتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ" . والله الموفّق.
[140] أخرجه الترمذي كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في معاشرة الناس، (1987). والإمام أحمد- في مسند الانصار عن أبي ذر الغفاري، ج5/ص153، (21681)
[141] أخرجه البخاري كتاب: مواقيت الصلاة، باب: الصلاة كفارة، (526). ومسلم – كتاب: التوبة، باب: قوله تعالى ) إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)(هود: من الآية114)، (2763)،(42)
[142] أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين (17) (25).
[143] أخرجه مسلم كتاب الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، (1017)،(69)
[144] أخرجه البخاري كتاب: الأذان، باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد،(660) ومسلم كتاب: الزكاة، باب: فضل إخفاء الصدقة، (1031)،(93)
[145] أخرجه البخاري كتاب: الادب، باب: الرفق في الأمر كله، (6024). ومسلم- كتاب: السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم، (2165)، (10) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:40 | |
| الحديث التاسع عشر
عَنْ أَبِي عَبَّاسٍ عَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ النبي صلى الله عليه وسلم يَومَاً فَقَالَ: (يَا غُلاَمُ إِنّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظِ اللهَ يَحفَظك، احْفَظِ اللهَ تَجِدهُ تُجَاهَكَ، إِذَاَ سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَاَ اسْتَعَنتَ فَاسْتَعِن بِاللهِ، وَاعْلَم أَنَّ الأُمّة لو اجْتَمَعَت عَلَى أن يَنفَعُوكَ بِشيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَك، وإِن اِجْتَمَعوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشيءٍ لَمْ يَضروك إلا بشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفعَت الأَقْلامُ، وَجَفّتِ الصُّحُفُ)[146] رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح - وفي رواية - غير الترمذي: (اِحفظِ اللهَ تَجٍدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعرِفْكَ في الشّدةِ، وَاعْلَم أن مَا أَخطأكَ لَمْ يَكُن لِيُصيبكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُن لِيُخطِئكَ، وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَربِ، وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسراً)[147]
الشرح
قوله "كُنْتُ خَلْفَ النبي" يحتمل أنه راكب معه ويحتمل أنه يمشي خلفه،وأياً كان فالمهم أنه أوصاه بهذه الوصايا العظيمة.
" يَا غُلامُ" لأن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيراً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وابن عباس قد ناهز الاحتلام يعني من الخامسة عشر إلى السادسة عشر أو أقل .
قال: "إني أُعَلمُكَ كَلِمَاتٍ" قال ذلك من أجل أن ينتبه لها "اِحْفَظِ اللهَ يَحفَظكَ" هذه كلمة عظيمة جليلة واحفظ تعني احفظ حدوده وشريعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه وكذلك بأن تتعلم من دينه ما تقوم به عبادتك ومعاملاتك وتدعو به إلى الله عزّ وجل،واحفظ الله يحفظك في دينك وأهلك ومالك ونفسك لأن الله سبحانه وتعالى يجزي المحسنين بإحسانه وأهم هذه الأشياء هو أن يحفظك في دينك ويسلمك من الزيغ والضلال لأن الإنسان كلما اهتدى زاده الله عزّ وجل هدى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد:17) ، وعُلِمَ من هذا أن من لم يحفظ الله فإنه لا يستحق أن يحفظه الله عزّ وجل وفي هذا الترغيب على حفظ حدود الله عزّ وجل .
الكلمة الثانية قال "احْفَظِ اللهَ تَجِدهُ تجَاهَكْ" ونقول في قوله: احْفَظِ اللهَ كما قلنا في الأولى، ومعنى تجده تجاهك وأمامك معناهما واحد يعني تجد الله عزّ وجل أمامك يدلك على كل خير ويقربك إليه ويهديك إليه ويذود عنك كل شر ولا سيما إذا حفظت الله بالاستعانة به فإن الإنسان إذا استعان بالله عزّ وجل وتوكل عليه كان الله حسبه ولا يحتاج إلى أحد بعد الله قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال:64)
أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين فإذا كان الله حسب الإنسان فإنه لن يناله سوء ولهذا قال: "احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ" .
الكلمة الثالثة: "إذَا سَألْتَ فَاسْأَلِ" إذا سالت حاجة فلا تسأل إلاالله عزّ وجل ولاتسأل المخلوق شيئاً وإذا قدر أنك سألت المخلوق ما يقدر عليه فاعلم أنه سبب من الأسباب وأن المسبب هو الله عزّ وجل لو شاء لمنعه من إعطائك سؤالك فاعتمد على الله تعالى.
الكلمة الرابعة: "وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ" فإذا أردت العون وطلبت العون من أحد فلا تطلب العون إلا من الله عزّ وجل، لأنه هو الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وهو يعينك إذا شاء وإذا أخلصت الاستعانة بالله وتوكلت عليه أعانك، وإذا استعنت بمخلوق فيما يقدر عليه فاعتقد أنه سبب، وأن الله هو الذي سخره لك. وفي هاتين الجملتين دليل على أنه من نقص التوحيد أن الإنسان يسأل غير الله، ولهذا تكره المسألة لغير الله عزّ وجل في قليل أو كثير، والله سبحانه وتعالى إذا أراد عونك يسر لك العون سواء كان بأسباب معلومة أو غير معلومة، فقد يعينك الله بسبب غير معلوم لك, فيدفع عنك من الشر ما لا طاقة لأحد به، وقد يعينك الله على يد أحد من الخلق يسخره لك ويذلِّله لك حتى يعينك، ولكن مع ذلك لا يجوز لك إذا أعانك الله على يد أحد أن تنسى المسبب وهو الله عزّ وجل.
الكلمة الخامسة: "وَاعْلَم أَنَّ الأُمّة لو اجْتَمَعَت عَلَى أن يَنفَعُوكَ بِشيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَك" الأمة كلها من أولها إلى آخرها لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك, وعلى هذا فإن نفع الخلق الذي يأتي للإنسان فهو من الله في الحقيقة لأنه هو الذي كتبه له وهذا حث لنا على أن نعتمد على الله عزّ وجل ونعلم أن الأمة لا يجلبون لنا خيراً إلا بإذن الله عزّ وجل.
الكلمة السادسة : "وإِن اِجْتَمَعوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشيءٍ لَمْ يَضروك إلا بشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ" وعلى هذا فإن نالك ضرر من أحد فاعلم أن الله قد كتبه عليك فارض بقضاء الله وبقدره، ولا حرج أن تحاول أن تدفع الضر عنك،لأن الله تعالى يقول(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا )(الشورى: الآية40) .
الكلمة السابعة: "رُفعَت الأَقْلامُ، وَجَفّت الصُّحُفُ" يعني أن ما كتبه الله عزّ وجل قد انتهى فالأقلام رفعت والصحف جفت ولا تبديل لكلمات الله .
قوله رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي رواية غير الترمذي: "اِحفظِ اللهَ تَجدهُ أَمَامَكَ" وهذا بمعنى "احْفَظِ اللهَ تَجِدهُ تُجَاهَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ يَعرِفُكَ في الشّدةِ" يعني قم بحق الله عزّ وجل في حال الرخاء وفي حال الصحة وفي حال الغنى يَعرِفكَ في الشّدةِ إذا زالت عنك الصحة وزال عنك الغنى واشتدت حاجتك عرفك بما سبق لك أو بما سبق فعل الخير الذي تعرفت به إلى الله عزّ وجل."وَاعْلَم أَنَّ مَا أَخطَأَكَ لَمْ يَكُن ليُصيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَم يَكُن ليُخطِئُكَ" أي ما وقع عليك فلن يمكن دفعه، وما لم يحصل لك فلا يمكن جلبه، ويحتمل أن المعنى، يعني أن ما قدر الله عزّ وجل أن يصيبك فإنه لا يخطئك، بل لابد أن يقع لأن الله قدره.
وأن ما كتب الله عزّ وجل أن يخطئك رفعه عنك فلن يصيبك أبداً، فالأمر كله بيد الله،وهذا يؤدي إلى أن يعتمد الإنسان على ربه اعتماداً كاملاً ثم قال: "وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ" فهذه الجملة فيها الحث على الصبر، لأنه إذا كان النصر مع الصبر فإن الإنسان يصبر من أجل أن ينال النصر، والصبر هنا يشمل الصبر على طاعة الله وعن معصيته وعلى أقداره المؤلمة، لأن العدو يصيب الإنسان من كل جهة فقد يشعر الإنسان أنه لن يطيق عدوه فيتحسر ويدع الجهاد، وقد يشرع في الجهاد ولكن إذا أصابه الأذى استحسر وتوقف، وقد يستمر ولكنه يصيبه الألم من عدوه فهذا أيضاً يجب أن يصبر، قال الله تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ)(آل عمران: الآية140) وقال الله تعالى: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104) فإذا صبر الإنسان وصابر ورابط فإن الله سبحانه ينصره.
وقوله: "وَاعْلَمْ أَن الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ" الفرج انكشاف الشدة والكرب، فكلما اكتربت الأمور فإن الفرج قريب، لأن الله عزّ وجل يقول في كتابه: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوء)(النمل: الآية62) فكل يسر بعد عسر بل إن العسر محفوف بيسرين، يسر سابق ويسر لاحق قال الله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح:5-6] ، قال ابن عباس رضي الله عنه "لَن يَغلُبَ عسرٌ يُسرَين" .
من فوائد الحديث :
.1ملاطفة النبي صلى الله عليه وسلم لمن هو دونه حيث قال: "يَا غُلام إني أُعَلِمُكَ كَلِماتٍ".
.2أنه ينبغي لمن ألقي كلاماً ذا أهمية أن يقدم له ما يوجب لفت الانتباه، حيث قال: "يَا غُلاَمُ إني أُعَلِمُكَ كَلِماتٍ".
.3أن من حفظ الله حفظه الله لقوله: "احفَظ الله يَحفَظكَ".
.4أن من أضاع الله - أي أضاع دين الله - فإن الله يضيعه ولا يحفظه،قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر: 19)
.5أن من حفظ الله عزّ وجل هداه ودله على ما فيه الخير، وأن من لازم حفظ الله له أن يمنع عنه الشر.
.6أن الإنسان إذا احتاج إلى معونة فليستعن بالله، ولكن لا مانع أن يستعين بغير الله ممن يمكنه أن يعينه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وتُعينَ الرجُلَ في دَابَّتِهِ فَتَحمِلَهُ عَليها أَو تَرْفَعَ لَهُ عَليها مَتَاعَهُ صَدَقَة".
.7أن الأمة لن تستطيع أن تنفع أحداً إلا إذا كان الله قد كتبه له، ولن يستطيعوا أن يضروا أحداً إلا أن يكون الله تعالى قد كتب ذلك عليه.
.8أنه يجب على المرء أن يكون معلقاً رجاءه بالله عزّ وجل وأن لايلتفت إلى المخلوقين، فإن المخلوقين لا يملكون له ضراً ولا نفعاً.
.9أن كل شيء مكتوب منتهٍ منه، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله عزّ وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة[148].
.10في الرواية الأخرى أن الإنسان إذا تعرف إلى الله عزّ وجل بطاعته في الصحة والرخاء عرفه الله تعالى في حال الشدة فلطف به وأعانه وأزال شدته.
.11أن الإنسان إذا كان قد كتب الله عليه شيئاً فإنه لا يخطئه، وأن الله عزّ وجل إذا لم يكتب عليه شيئاً فإنه لا يصيبه.
.12البشارة العظيمة للصابرين، وأن النصر مقارن للصبر.
.13فيه البشارة العظيمة أيضاً بأن تفريج الكربات وإزالة الشدائد مقرون بالكرب، فكلما كر ب الإنسان الأمر فرج الله عنه.
.14البشارة العظيمة أن الإنسان إذا أصابه العسر فلينتظر اليسر، وقد ذكر الله تعالى ذلك في القرآن الكريم، فقال تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح:5-6] فإذا عسرت بك الأمور فالتجيء إلى الله عزّ وجل منتظراً تيسيره مصدقاً بوعده.
.15تسلية العبد عند حصول المصيبة، وفوات المحبوب على أحد المعنيين في قوله: "وَاعْلَم أن مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُن لِيُخطِئكَ ، وَمَا أخطأَكَ لَمْ يَكُن لِيصيبَك" فالجملة الأولى تسلية في حصول المكروه،والثانية تسلية في فوات المحبوب. والله الموفق.
[146] أخرجه الترمذي كتاب: صفة القيامة، باب، (2516) والإمام أحمد- عن عبدالله بن عباس، ج1/ص293، (2669).
[147] الحاكم في المستدرك على الصحيحين – ج3/ ص624، كتاب معرفة الصحابة، (6304) وقال عنه الذهبي في التلخيص: ليس بمعتمد.
[148] أخرجه مسلم كتاب: القدر، باب: حجاج آدم وموسى عليهما السلام، (2653) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:40 | |
| الحديث العشرون
عَنْ أَبيْ مَسْعُوْدٍ عُقبَة بنِ عَمْرٍو الأَنْصَارِيِّ البَدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ مِمَّا أَدرَكَ النَاسُ مِن كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذا لَم تَستَحْيِ فاصْنَعْ مَا شِئتَ)[149] رواه البخاري.
الشرح
"إِنَّ" أداة توكيد خبرها مقدم وهو قوله: "مِما أَدرَكَ الناسُ" واسم إن قوله: "إذا لَم تَستَحْيِ فَاصْنَع مَا شِئت" وهذه الجملة على الحكاية، فتكون الجملة كلها اسم إن، والتقدير: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى هذا القول.
وقوله: "إِنَّ مِما أَدرَكَ الناسُ" (من) هنا للتبعيض، أي إن بعض الذي أدركه الناس من كلام النبوة الأولى... الخ.
وقوله: النبوَةِ الأُولَى يعني السابقة، فيشمل النبوة الأولى على الإطلاق، والنبوة الأولى بالنسبة لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم فعليه نفسر : النبوَةِ الأُولَى أي السابقة .
"إذا لَم تَستَحْيِ فَاصْنَع مَا شِئت" هذه الكلمة من كلام النبوة الأولى، والحياء هو عبارة عن انفعال يحدث للإنسان عند فعل ما لا يجمله ولا يزينه، فينكسر ويحصل الحياء.
وقوله: "إِذا لَم تَستَحْيِ" يحتمل معنيين:
المعنى الأول:إذا لم تكن ذا حياء صنعت ما تشاء، فيكون الأمر هنا بمعنى الخبر، لأنه لا حياء عنده، يفعل الذي يخل بالمروءة والذي لا يخل.
المعنى الثاني: إذا كان الفعل لا يُستَحَيى منه فاصنعه ولا تبالِ.
فالأول عائد على الفاعل، والثاني عائد على الفعل.
والمعنى: لا تترك شيئاً إذا كان لا يُستَحيى منه.
وقوله: "فاصنَع مَا شِئت" أي افعل،والأمر هنا للإباحة على المعنى الثاني،أي إذا كان الفعل مما لا يستحيى منه فلا حرج.
وهي للذم على المعنى الأول، أي أنك إذا لم يكن فيك حياء صنعت ما شئت.
من فوائد هذا الحديث :
1- أن الآثار عن الأمم السابقة قد تبقى إلى هذه الأمة، لقوله: إِنَّ مِمَا أَدرَكَ الناسُ مِن كَلاَمِ النُّبوَةِ الأُولَى وهذا هو الواقع.
وما سبق عن الأمم السابقة إما أن ينقل عن طريق الوحي في القرآن، أو في السنة ،أو يكون مما تناقله الناس.
فأما في القرآن ففي قوله عزّ وجل: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * َالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى* صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) [الأعلى:16-19] ، وما جاءت به السنة فكثير، كثيراً ما يذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن بني إسرائيل ما يذكر.
وأما ما يؤثر عن النبوة الأولى: فهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول:ما شهد شرعنا بصحته،فهو صحيح مقبول.
القسم الثاني:ما شهد شرعنا ببطلانه، فهو باطل مردود.
القسم الثالث:ما لم يرد شرعنا بتأييده ولا تفنيده،فهذا يتوقف فيه،وهذا هو العدل.
ولكن مع ذلك لا بأس أن يتحدث به الإنسان في المواعظ وشبهها إذا لم يخشَ أن يفهم المخاطَب أنه صحيح.
ومما نعلم أنه خطأ وباطل ما يذكر عن داود عليه الصلاة والسلام حينما دخل محرابه- أي مكان صلاته - وجعل يتعبد وأغلق الباب، وكان قد جعله الله تعالى خليفة في الأرض يحكم بين الناس، فجاء الخصمان فلم يجدا الباب مفتوحاً، فتسورا الجدار فنزلا على داود، ففزع منهم، كعادة البشر، قالوا:لا تخف، وهذا يدل على أنهم أكثر من اثنين ،فقالوا (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً ) [ص:22-23]
هؤلاء خصوم ويقول:إن هذا أخي، وهذا أدب رفيع، لو كان في وقتنا هذا لقال إن هذا المجرم الظالم، لكن هذا قال( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) أي شاة (وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) (صّ:23) أي غلبني لأن عنده بياناً وفصاحة.
قال داود: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ* فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) [ص:24-25].
زعم اليهود أن لداود عليه الصلاة والسلام جندياً له امرأة جميلة، وأرادها داود، ولكي يتوصل إليها أمر هذا الجندي أن يذهب في الغزو من أجل أن يقتل فيأخذ داود زوجته[150]
وهذا لا شك أنه منكر، فهذا لا يقع من عامة الناس فكيف يقع من نبي؟ !! لكنهم افتروا على الله كذباً وعلى رسله كذباً.
فإن قال قائل: ما وجه قوله: (وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) [ص:24].
فالجواب: أن هذا الذي حصل من داود عليه السلام فيه شيء من المخالفات، منها:
أولاً:أنه انحبس في محرابه عن الحكم بين الناس، وكان الله تعالى قد جعله خليفة يحكم بين الناس، ولكنه آثر العبادة القاصرة على الحكم بين الناس.
ثانياً:أنه أغلق الباب مما اضطر الخصوم إلى أن يتسوروا الجدار، وربما يسقطون ويحصل في هذا ضرر.
ثالثاً:أنه عليه الصلاة والسلام حكم للخصم قبل أن يأخذ حجة الخصم الآخر، فقال: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ) [ص:24] وهذا لا يجوز، أي لا يجوز للحاكم أن يحكم بقول أحد الخصمين حتى يسمع كلام الخصم الآخر، فعلم داود أن الله تعالى اختبره بهذه القصة فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب.
فما أثر عن بني إسرائيل في هذا نعلم أنه كذب،لأنه ينافي عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخلاقهم، وما جاؤوا به من العدل.
2- أن هذه الجملة: إِذا لَم تَستَحْيِ فاصنَع مَا شِئت مأثورة عمن سبق من الأمم، لأنها كلمة توجه إلى كل خلق جميل.
3- الثناء على الحياء، سواء على الوجه الأول أو الثاني، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الحَيَاءُ شُعبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ[151]
والحياء نوعان:
الأول:فيما يتعلق بحق الله عزّ وجل.
الثاني:فيما يتعلق بحق المخلوق.
أما الحياء فيما يتعلق بحق الله عزّ وجل فيجب أن تستحي من الله عزّ وجل أن يراك حيث نهاك، وأن يفقدك حيث أمرك.
وأما الحياء من المخلوق فأن تكفَّ عن كل ما يخالف المروءة والأخلاق.
فمثلاً:في المجلس العلمي لو أن إنساناً في الصف الأول مدَّ رجليه، فإنه لا يعتبر حياءً لأن هذا يخالف المروءة، لكن لو كان مجلس بين أصحابه ومدَّ رجليه فإن ذلك لا ينافي المروءة، ومع هذا فالأولى أن يستأذن ويقول: أتأذنون أن أمدَّ رجلي؟.
ثم الحياء نوعان أيضاً من وجه آخر:
نوع غريزي طبيعي، ونوع آخر مكتسب.
النوع الأول:فإن بعض الناس يهبه الله عزّ وجل حياءً، فتجده حيياً من حين الصغر، لا يتكلم إلا عند الضرورة، ولا يفعل شيئاً إلا عند الضرورة، لأنه حيي.
النوع الثاني:مكتسب يتمرن عليه الإنسان، بمعنى أن يكون الإنسان غير حيي ويكون فرهاً باللسان، وفرهاً بالأفعال بالجوارح، فيصحب أناساً أهل حياء وخير فيكتسب منهم، والأول أفضل وهو الحياء الغريزي.
ولكن اعلم أن الحياء خلق محمود إلا إذا منع مما يجب، أو أوقع فيما يحرم ، فإذا منع مما يجب فإنه مذموم كما لو منعه الحياء من أن ينكر المنكر مع وجوبه، فهذا حياء مذموم، أنكر المنكر ولا تبالِ، ولكن بشرط أن يكون ذلك واجباً وعلى حسب المراتب والشروط، وحياء ممدوح وهو الذي لا يوقع صاحبه في ترك واجب ولا في فعل محرم.
4- أن من خلق الإنسان الذي لا يستحيي أن يفعل ما شاء ولا يبالي، ولذلك تجد الناس إذا فعل هذا الرجل ما يستحيى منه يتحدثون فيه ويقولون: فلان لا يستحيي فعل كذا وفعل كذا وفعل كذا.
5- ومن فوائد الحديث على المعنى الثاني: أن ما لا يستحيى منه فالإنسان حل في فعله لقوله: إذَا لَم تَستَحْيِ فَاصنَع مَا شِئت.
6- فيه الرد على الجبرية، لإثبات المشيئة للعبد. والله الموفق.
[149] أخرجه البخاري كتاب: الأدب، باب: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، (6120)
[150] انظر الروايات في ذلك في الدر المنثور للسيوطي (7/155-163)
[151] سبق تخريجه صفحة (162) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
El Helalyaالمؤسسة
تاريخ التسجيل : 08/08/2008
| موضوع: رد: سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى الخميس 3 مارس 2011 - 8:40 | |
| الحديث الحادي والعشرين
عَنِ أَبيْ عَمْرٍو، وَقِيْلَ،أَبيْ عمْرَةَ سُفْيَانَ بنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ يَارَسُوْلَ اللهِ قُلْ لِيْ فِي الإِسْلامِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدَاً غَيْرَكَ؟ قَالَ: "قُلْ آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ استَقِمْ"[152].
الشرح
قوله: "قل لي في الإسلام " أي في الشريعة.
قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك يعني قولاً يكون حداً فاصلاً جامعاً مانعاً.
فقال له: "قُل آمَنْتُ بِاللهِ" وهذا في القلب "ثُمَّ استَقِم" على طاعته، وهذا في الجوارح.
فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم كلمتين: "آمَنْتُ بِاللهِ" محل الإيمان القلب "ثُمَّ استَقِم" وهذا في عمل الجوارح.
وهذا حديث جامع، من أجمع الأحاديث.
فقوله: قُل آمَنْتُ يشمل قول اللسان وقول القلب.
قال أهل العلم:قول القلب:هو إقراره واعترافه.
"آمَنْتُ بِاللهِ" أي أقررت به على حسب ما يجب علي من الإيمان بوحدانيته في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
ثم بعد الإيمان "اِستَقِم" أي سر على صراط مستقيم، فلا تخرج عن الشريعة لا يميناً ولا شمالاً.
هاتان الكلمتان جمعتا الدين كله.
فلننظر: الإيمان بالله يتضمن الإخلاص له في العبادة، والاستقامة تتضمن التمشي على شريعته عزّ وجل، فيكون جامعاً لشرطي العبادة وهما: الإخلاص والمتابعة.
من فوائد هذا الحديث:
.1حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم، وذلك لما يرد على النبي صلى الله عليه وسلم منهم من الأسئلة.
.2عقل أبي عمرو أو أبي عمرة رضي الله عنه حيث سأل هذا السؤال العظيم الذي فيه النهاية، ويستغنى عن سؤال أي أحد.
.3أن الإنسان ينبغي له أن يسأل عن العلم السؤال الجامع المانع حتى لا تشتبه عليه العلوم وتختلط، لقوله: "قَولاً لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدَاً غَيْرَك"،وفي هذا إشكال وهو قوله: "لا أَسأَلُ عَنهُ أَحَدَاً غَيْرَك" فهل يمكن أن يسأل الصحابة رضي الله عنهم أحداً غير رسول الله في أمور الدين؟
فالجواب: نعم ، يمكن أن يسأل أحدهم مَنْ يفوقه في العلم، وهذا وارد، ثم هذه الكلمة تقال حتى وإن لم يكن يسأل ، لكن تقال من أجل أن يهتم المسؤول بالجواب.
.4أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم حيث جمع كل الدين في كلمتين:"آمَنتُ بِاللهِ، ثُمَّ استَقِم" وهذا يشهد له قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الاحقاف:13) وقوله تبارك وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) وقوله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا)[هود:112] والآيات في هذا المعنى كثيرة .
.5التعبير بكلمة الاستقامة دون التعبير المشهور عند الناس الآن بكلمة الالتزام، فإن الناس اليوم إذا أرادوا أن يثنوا على شخص بالتمسك بالدين قالوا: فلان ملتزم، والصواب أن يقال: فلان مستقيم كما جاء في القرآن والسنة .
.6أن من قصر في الواجبات فما استقام، بل حصل عنده انحراف، والانحراف تكون شدته بقدر ما ترك من الواجبات أو فعل من المحرمات.
.7أنه ينبغي للإنسان أن يتفقد نفسه دائماً: هل هو مستقيم أو غير مستقيم؟ فإن كان مستقيماً حمد الله وأثنى عليه وسأل الله الثبات، وإن كان غير مستقيم وجب عليه الاستقامة وأن يعدل سيره إلى الله عزّ وجل.
فمن أخر الصلاة عن وقتها فهو غير مستقيم ، لأنه أضاع الصلاة.
ومن منع الزكاة فهو غير مستقيم لأنه أضاع الزكاة.
ورجل يعتدي على الناس في أعراضهم فغير مستقيم، لفعل المحرم.
ورجل يغش الناس ويخادعهم في البيع والشراء والإجارة والتأجير وغير ذلك فهذا غير مستقيم.
فالاستقامة وصف عام شامل لجميع الأعمال ، والله الموفق.
[152] أخرجه مسلم كتاب: الإيمان، باب: جامع أوصاف الإسلام، (38)،(62) الموضوع : سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya |
|
| |
| سلسلة شرح الأربعين النووية للشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى | |
|