نظرةُ المستشرقينَ للسنَّةِ النبويَّةِ المطهَّرَةِ
" شبهاتٌ وردودٌ "
مثنى علوان الزيدي
الحمد لله مفلج الحق وناصره، ومدحض الباطل وماحقه، الذي اختار الإسلام لنفسه دينا، فأمر به وأحاطه، وتوكل بحفظه وضمن إظهاره ، ثم اصطفى من خلقه رسلا ابتعثهم بالدعاء إليه، وأمرهم بالقيام به والصبر على ما نابهم فيه من جهلة خلقه، وامتحنهم من المحن بصنوف، وابتلاهم من البلاء بضروب، تكريما لهم غير تذليل، وتشريفا غير تخسير، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، فكان أرفعهم عنده درجة أجدَّهم ثباتا مع شدة المحن، فصلى الله على نبينا محمد وعلى الأنبياء أجمعين وال بيته الطيبين وصحابته الطاهرين ومن اقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وبعد:
(الاستشراق بين المهوِّلين والمهوِّنين)
قبل البدء في الكتابة عما نحن بصدده وهو النظرة الاستشراقية للسنة النبوية لا بد من مقدمة تعلو بين جوانبها خوافق الحقيقة، فتزاح أمام القارئ الهيبة التهويلية للمستشرقين على السنة المحبِّين، والهيئة التهوينية لهم على السنة المبغضين.
فالبعض قد بالغ في ذم الاستشراق وكل ما يمت إليه بصلة، بينما يرى البعض أنَّ الاستشراق إنما هو جهد علمي لدراسة الشرق، وبخاصة بعض الذين تتلمذوا على أيدي بعض المستشرقين حيث يرون فيهم المثال في المنهجية والإخلاص والدقة وغير ذلك من النعوت المادحة.
حتى أنَّ الكثير من أبناء المسلمين قد تلقى العلوم الإسلامية على أيدي المستشرقين، فبعض الجامعات العربية والإسلامية استضافت عدداً من هؤلاء للتدريس فيها كما حدث في الجامعة المصرية حين استضافت بعض المستشرقين لتدريس آداب اللغة العربية، ناهيك عن البعثات العربية للبلاد الغربية التي بدأت خطواتها منذ بداية القرن التاسع عشر في عهد محمد علي الكبير.
والحقيقة التي تظهر لنا هي أن الاستشراق هو جهد يقوم به الغربيون - بمختلف أفكارهم ورؤاهم ومستوياتهم وانتماءاتهم وقناعاتهم بالأديان - عن الشرق وعلومه لأهداف مدروسة.
يؤيِّد ذلك تعريف قاموس أكسفورد حيث يعرِّف المستشرق بأنه: " من تبحَّر في لغات الشرق وآدابه."
فإطلاق العموم بالرضا عن المستشرقين ما هو إلا تهوين مُشين يساعد في إضعاف البصيرة العلمية للباحثين، وخصوصا الذين يعملون على مواجهة المنظومة الاستشراقية الهادفة لإضعاف المسلمين وتشويه حضارتهم.
فقد عرَّف بعضُ الباحثين المسلمين ومنهم الاستاذ احمد عبد الحميد غراب الاستشراقَ بأنه: "عبارة عن دراسات أكاديمية يقوم بها غربيون...من أهل الكتاب بوجه خاص للإسلام والمسلمين، من شتى الجوانب بهدف تشويه الإسلام ومحاولة تشكيك المسلمين فيه، وتضليلهم عنه، وفرض التبعية للغرب عليهم، ومحاولة تبرير هذه التبعية بدراسات ونظريات تدعي العلمية والموضوعية، وتزعم التفوق العنصري والثقافي للغرب المسيحي على الشرق الإسلامي."
حتى أن استاذنا الدكتور عبد القهار العاني رحمه الله الذي كان رائدا في الوقوف ضد هجمات المستشرقين ذكر في كتابه الاستشراق والدراسات الإسلامية قوله: " إن من الصعوبة والعسر على الباحث أن يفصل العمل الاستشراقي عن الهدف الديني التنصيري...وان أول أمر الدراسات الاستشراقية قامت للانتقاص من قيم الإسلام وتعاليمه حرصا على مذهب الكثلكة من جانب وتعويضا عن الهزائم الصليبية في تحرير بيت المقدس من جانب آخر".
وأمام هذا فان إطلاق العموم كذلك بالتذمر من المستشرقين والشعور بانَّ ما يفعلوه هو الخطة الفاصلة للقضاء على الإسلام والمسلمين بل والشرق الأوسط برمته ما هو إلا تهويل عليل.
إذ إنَّ الكثير من الحركات الاستشراقية أعطت للاُمَّة العربية والإسلامية الشرق أوسطية وأجيالها قيمة عليا فوق قيمتهم وشعورا بالفخر تجاه حضارتهم، فأصبحوا يفكرون بأنه لا بد للحضارة هذه أن تُصانَ وتُحْمَى، فناولوا لأبنائها أقلاما أصبحت بمرور الزمن سهاما مُشِعَّةً في أيديهم ينافحون بها عن حضارتهم ومكانتهم.
(المستشرقون والسنة النبوية)
كان للمستشرقين دورا في قذف الشبهات حول السنة النبوية المطهرة وذلك للتشكيك في صحتها، كونهم على علم بأن السنة النبوية هي المصدر الثاني من مصادر التشريع، فإذا استطاعوا ذلك فان الطريق مأمون للتشكيك بالقرآن الكريم الذي هو المصدر الأول من مصادر هذا التشريع.
تتصدَّرهم من الداخل طلائع التنويريين المتأثرين بالغرب، ومن الخارج جحافل المستشرقين، كل ذلك ما كان له ذِكْر في عالم الحقيقة لولا طرق الدعاية وسبل النشر التي حضيت بأعلى الاهتمامات الغربية والى يومنا هذا.
ولكن هل وفِّقت هذه العصبة في تحقيق أهدافها؟
يكفي في الجواب على هذا السؤال أنَّ جامعة "لندن" وكذلك جامعة "كمبردج" لم توافقا على أن تناقَش أيَّ اطروحة لدراسة ونقد كتاب المؤلف "شاخت" المسمى "اصول الشريعة المحمدية"، ذلك الكتاب الذي يعتبر من ابرز ما كُتب في الطعن بالسنة النبوية والتشريع الإسلامي، بل ويعتبر أساسا لكل دراسة عن الإسلام وشريعته، على الأقل في العالم الغربي كما قال البروفسور " جب ".
وهذا ما وقع بالفعل، فقد طُرد احد الأساتذة في جامعة "أكسفورد" بعدما لخَّص آراء شاخت في الفقه الإسلامي ونقدها بأدلة دامغة و واضحة، فلم الطرد إذا ولجت شبهاتهم في أبواب الحقيقة؟ إن هذا يدل دلالة قاطعة على أنها لا تعني إلا العجز عن المزاولة العلمية والمطاولة المعرفية لإظهار الحقيقة بصفائها العذب.
شبهة العادة المقدسة والدحض الحتمي
من هذه الشُبَه المقذوفة بين طرفي المنازلة المنكَفئ "شبهة العادة المقدسة"، وهي للمستشرق "جولد تسيهر" حيث زعم ان السنة النبوية هي جوهر العادات، وأنه تفكير الامة الإسلامية قديما، وتسمى بالعادة المقدسة والأمر الأول، كذلك فهو يصفها بأنها "العواطف القائمة مقام غيرها"، والعرب هم من نقل السنة إلى الإسلام، فأوهم الإسلام الداخلين فيه أنَّها سنة جديدة من دون تراكمات سابقة وعادات بالية، ويدَّعون بان المسلمين اخذوا ينتهجون منهجا جديدا من الأقوال والأفعال ويضعونها في المحل الأول أو تلك التي صحت عن الصحابة ويضعونها في المحل الثاني، حتى قالوا أنَّ السنة هي أصلا لما كان معروفا سابقا قبل الإسلام.
هذه هي شبهة واحدة من شبهاتهم الواهية، حيث أن التناقض موجود والوهم حاصل في ثنايا كلامهم.
فإذا كان تفيهُقُهُم صحيحا-على فرض التسليم- فهذا لا يعني ذلك انَّ الأشياء المسنونة سميت فيما بعد بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إنَّ حقيقة السنَّة عند المسلمين متجوهرة في الطاعة المفروضة للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس في اللفظ اللغوي الذي انتزعوا منه حقيقة اقدميته، فلا يشك احدٌ أنَّ السنة لها معانٍ في اللغة متعددة.
حتى أن الأمر البياني في القرآن الكريم لم يأمر بإطاعة السنة بل أمر بإطاعة الرسول لأنها هي الأصل المتجوهر في الاعتقاد والمعرفة المكنونة في الفؤاد.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء : 59] وقال عز وجل: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر : 7]ثم ذكر في آية اخرى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)} [التغابن : 12]
فهل أمر تعالى بطاعة السنة؟ أم أمَرَ تعالى بطاعة صاحبها صلى الله عليه وسلم؟ فأين الفائدة الاستشراقية اذاً في اللعب على أوتار المصطلحات التي لا مَشاحة فيها؟ مع العلم بأن "جولد تسيهر" لم يكن الوحيد الذي حاول تلك المحاولات، بل شاركه "مارغليوث" حين أرجع معنى السنة إلى العرف القائم، ووافقه على ذلك "شاخت" وسماها بالأعراف السائدة.
وتزيد الوقائع الحيَّة تأكيدا لنصاعة الآيات القرآنية وكفايتها في الرد على تهافت هؤلاء، ففي مسند الإمام احمد عن سَالِمٍ قَالَ: (كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُفْتِي بِالَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الرُّخْصَةِ بِالتَّمَتُّعِ وَسَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ فَيَقُولُ نَاسٌ لِابْنِ عُمَرَ كَيْفَ تُخَالِفُ أَبَاكَ وَقَدْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَيْلَكُمْ أَلَا تَتَّقُونَ اللَّهَ إِنْ كَانَ عُمَرُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فَيَبْتَغِي فِيهِ الْخَيْرَ يَلْتَمِسُ بِهِ تَمَامَ الْعُمْرَةِ فَلِمَ تُحَرِّمُونَ ذَلِكَ وَقَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ وَعَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَقُّ أَنْ تَتَّبِعُوا سُنَّتَهُ أَمْ سُنَّةَ عُمَرَ؟ إِنَّ عُمَرَ لَمْ يَقُلْ لَكُمْ إِنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ حَرَامٌ وَلَكِنَّهُ قَالَ إِنَّ أَتَمَّ الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْرِدُوهَا مِنْ أَشْهُرِ الْحَجًًًًِّ).
وقد علَّق الدكتور سعد المرصفي في كتابه " المستشرقون والسنة النبوية" على ذلك بقوله:"وهذا القول من ابن عمر فصل في القضية، حيث مايز بين قضيتين مختلفتين تماما، اثبت للاولى حق الإتباع ولو كان العرف الشائع أو تقاليد المجتمع هما السنة".
قال الشيخ العلامة احمد شاكر: "فلم يكن إتباع المسلمين لسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن عادة اتباع الآباء...أمر الله الناس باتباع الحق حيثما كان، وأمرهم باستعمال عقولهم في التدبر في الكون وآثاره..." إلى آخر ما قال رحمه الله.
فأين نذهب بشبهاتهم المدحوضة؟ وفي أي بحر غاصت عقولهم المتبلدة من التفكير بما دعى إليه العظيم الكبير من التشنيع على المستنين بدين الآباء والأجداد؟ وهذه الشبهة المفترى ليست نهاية أوحالهم بل هي في مستنقع آسن.
الموضوع : نظرة المستشرقين للسنه المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: الخنساء