التعامل النبوي مع غير المسلمين
لعل من المهم أن ندرك طبيعة النظرة الإسلامية إلي النفس الإنسانية بصفة
عامة ; لندرك كيف تناول المنهج الإسلامي قضية غيرالمسلمين وكيفية التعامل
معهم .
وقد فصلت هذا الموضوع في كتابي ( فن التعامل النبوي مع غير المسلمين) .
إن النفس الإنسانية بصفة عامة مكرمة ومعظمة .. وهذا الأمرعلي إطلاقه ,
وليس فيه استثناء بسبب لون أو جنس أو دين , قال تعالي في كتابه : [
ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم
علي كثير ممن خلقنا تفضيلا ] [ الإسراء:70] .
وهذا التكريم عام وشامل للمسلمين وغير المسلمين ; فالجميع مفضل علي كثير
من خلق الله عز وجل , وقد انعكس هذا التكريم العام علي كل بند من بنود
الشريعة الإسلامية , وهذا واضح في آيات القرآن الكريم , وفي حياة
الرسول صلي الله عليه وسلم , وما أروع الموقف الذي علمنا إياه رسول الله
- صلي الله عليه وسلم - عندما مرت به جنازة يهودي!!
فقد روي الإمام مسلم أن قيس بن سعد وسهل بن حنيف كانا بالقادسية , فمرت
بهما جنازة , فقاما , فقيل لهما : إنها من أهل الأرض ( أي: من
مجوس فارس) . فقالا : إن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - مرت به
جنازة فقام , فقيل : إنه يهودي , فقال :' أليست نفسا'. ألا ما
أروع هذا الموقف حقا!!
فقد زرع رسول الله - صلي الله عليه وسلم - بهذا الموقف في نفوس
المسلمين التقدير والاحترام لكل نفس إنسانية علي الإطلاق ; لأنه فعل ذلك
وأمر به , حتي بعد علمه أنه يهودي , رغم أن اليهود رأوا الآيات ثم لم
يؤمنوا , بل إنهم اعتدوا عليه - صلي الله عليه وسلم - بشتي أنواع
الاعتداءات المعنوية والمادية , ومع هذا فإن رسول الله - صلي الله عليه
وسلم - يقف لجنازة رجل منهم ليس له فضيلة معينة. إنه الاحترام الحقيقي
للنفس البشرية..
ثم إن المسلم يعتقد أن الاختلاف بين الناس أمر حتمي ! يقول تعالي : [
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ] [ هود:118].
وإذا علمت أن المسلم يعتقد أن الحساب يوم القيامة بيد الله - عز وجل -
وحده , أدركت أن المسلم لا يفكر مطلقا في إجبار الآخرين علي اعتناق
الإسلام , قال تعالي : [ ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا
أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين ] , يونس : 99].
فمهمة المسلم ببساطة أن يصل بدعوته نقية إلي غير المسلمين , أما ردود
أفعالهم تجاه هذه الدعوة فلا يسأل عنها المسلم ولا يحاسب عليها .. قال
تعالي : [ وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم
القيامة فيما كنتم فيه تختلفون ] [ الحج:69,68].
من هذا المنطلق , جاءت أوامر الشريعة الإسلامية الخاصة بالعدل والرحمة
والألفة والتعارف , وفضائل الأخلاق .. جاءت عامة تشمل المسلمين وغير
المسلمين .
ففي شريعتنا الإسلامية تجد قول الله عز وجل : [ ولا تقتلوا النفس التي
حرم الله إلا بالحق ] [ الأنعام:151] , والنهي هنا عام , يشمل نفوس
المسلمين وغير المسلمين ; فالعدل في الشريعة مطلق لا يتجزأ .
وفي مسألة العفو قال الله - عز وجل : [ وسارعوا إلي مغفرة من ربكم وجنة
عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء
والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ] [ آل
عمران:134,133] . فالعفو من صفات المؤمن , وهو عفو واسع يشمل '
الناس' كما ذكر ربنا سبحانه وتعالي.
بل أكثر من كل ذلك ; أنه عندما ذكر سبحانه وتعالي أمر العدل المأمور به
في الإسلام حض وأمر أن يكون العدل حتي مع من نكره من الناس !!
قال تعالي:[ ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوي واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون][ المائدة:8].
هذه النظرة غير المتناهية في الأخلاق تفسر لنا الأخلاق النبيلة التي كان
عليها رسولنا - صلي الله عليه وسلم - .. فقد كان متبعا للشرع في كل
خطوة من خطوات حياته مع أنه في زمان ندرت فيه أخلاق الفرسان , وعزت فيه
طبائع النبلاء .
ومع النظرة الإسلامية المتقبلة للاختلاف فإن الرسول - صلي الله عليه وسلم
- كان يرجو الإسلام حتي لألد أعدائه , برغم شرورهم ومكائدهم ; فيقول
:' اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك : بأبي جهل , أو بعمر
بن الخطاب ' , فكان أحبهما إلي الله عمر بن الخطاب .
إن التاريخ الطويل من الصد عن سبيل الله , وفتنة المسلمين عن دينهم ,
لم يورث قلب رسول الله - صلي الله عليه وسلم - شعورا بالانتقام , أو
الكيد أو التنكيل , وإنما شعر بأنهم مرضي يحتاجون إلي طبيب ; فجاءت هذه
الدعوة لهم بالهداية وبالعزة والنجاة ;; لذا كان يحزن حزنا شديدا إذا
رفض إنسان أو قوم الإسلام , حتي وصل الأمر إلي أن الله - عز وجل -
نهاه عن هذا الحزن والأسي ..
قال تعالي يخاطبه - صلي الله عليه وسلم -: [ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا
مؤمنين ] [الشعراء:3] . ويقول أيضا : [ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات
] [ فاطر:8] .
ومع شدة هذا الحزن إلا أن الرسول - صلي الله عليه وسلم - لم يجعله
مبررا للضغط علي أحد ليقبل الإسلام , وإنما جعل الآية الكريمة : [ لا
إكراه في الدين ] [ البقرة:256] منهجا له في حياته , فتحقق في حياته
التوازن الرائع المعجز ; فيدعو إلي الحق الذي معه بكل قوة , ولكنه لا
يدفع أحدا إليه مكرها أبدا .
إنها نظرة الرحمة والرعاية لا القهر أو التسلط .. وسبحان الذي رزقه - صلي الله عليه وسلم - هذا الكمال في الأخلاق !
الموضوع : تكريم الإسلام للنفس البشرية - د. راغب السرجانى المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya