الرسالة الأولى:في تحديد الوجهة
عندما
يُضْرَبُ الحِصَارُ على القرآن وأهلِه، وتُغْلَقُ مَدَارِسُهُ
ومَحَاضِرُهُ، وتُصَادَرُ ألواحُه وحَنَاجِرُهُ؛ فإن الله - جل جلاله –
يبعث له من يتلقى رسالاته من جديد؛ على سبيل التجديد لهذا الدين في النفوس،
وتحدي الكيد الشيطاني للدين وأهله! ثم ينشر نوره في الآفاق! (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواهم والله متم نوره ولو كره الكافرون)(الصف:8)
إن المسلمين في كثير من الأقطار يعانون اليومَ
أزمةَ غياب التداول الاجتماعي للقرآن الكريم! ومعنى "التداول" ههنا:
الانخراط العملي في تصريف آيات الكتاب في السلوك البشري العام، تلاوةً
وتزكيةً وتعلماً، وتعريض تربة النفس لأمطار القرآن، وفتح حدائقها
الْمُشْعِثَةِ لِمَقَارِضِهِ وَمَقَاصِّهِ! حتى يستقيم المجتمع كله على
موازين القرآن!
إن ثمة أزمة منهاجية في التعامل مع القرآن
وبياناته النبوية في الصف الإسلامي المعاصر.. إن مشكلتنا أننا نشتغل حول
القرآن وليس بالقرآن وفي القرآن! وبينهما فرق كبير كما بيناه في كتاب
"الفطرية".( ) إن الذي يشتغل بالعمل حول النص الشرعي، معناه أنما هو يتخذه
شعاراً فقط، ربما من حيث لا يدري! لأنما هو في الواقع يشتغل بمجموعة من
الأفكار المجردة، والآراء الشخصانية، أو الجماعية. ولذلك فإنك تجد عملية
تداول القرآن ومكابدته في مثل هذا الصف ضعيفةٌ جِدّاً إن لم تكن منعدمة!
لأن التحقق برسالات القرآن، وبحقائق الوحي، ليس مقصوداً لذاته في حركة ذلك
العمل. وفي ذلك ما فيه من مَثَالِمَ ومَخَارِمَ!
أما الاشتغال بالقرآن وفي القرآن، فهو: عمل
يتخذ كتابَ الله أساسَ مشروعه، وصُلْبَ عَمَلِهِ ومنهاجِه، تلاوةً وتزكيةً
وتَعَلُّماً وتعليماً! إنه دخول في مسلك القرآن، تَلَقِّياً لآياته،
وخضوعاً لحركته التربوية في النفس، ومكابدةً لحقائقه الإيمانية، واستيعاباً
لأحكامه وحِكَمِهِ، في طريق حمل النفس على التحقق بمنازلها والتخلق
بأخلاقها! إن السير العملي في ميدان الدعوة والتربية على هذا المنهاج هو
عين الالتزام بمنهاج النبوة في إصلاح النفس والمجتمع. إنه تمثل حقيقي بحياة
الصحابة الكرام، واتباع للطريقة العلمية الحقة في تجديد الدين، سواء على
المستوى الفردي أو الجماعي.
إن اتخاذ القرآن أساس العمل الدعوي، ليس معناه
إلغاء وسائل العمل الإسلامي الاجتهادية، سواء كانت اجتماعية، أو سياسية،
أو اقتصادية، أو إعلامية، أو ثقافية...إلخ.
وإنما هذا المنهاج يحكم عليها جميعاً
بالانضواء تحت هيمنة القرآن والخضوع لتوجيهه وأولوياته! وكذلك بَنَى محمد
صلى الله عليه وسلم مجتمع الإسلام الأول، تحت عين الوحي وتوجيهه. ودونك
سيرته العظمى فانظر!
إن حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب مهم جداًّ،
لكنه لا يمثل بمفرده حقيقة ما نحن فيه! رغم أن تعميم الحفظ والاستظهار
لكتاب الله، أو لبعضه، من أهم خطوات السير فيه! إن الحفظ المطلوب في هذا
المنهاج إنما هو الحفظ الذي مارسه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث
كانوا يتلقون خمس آيات أو عشراً، فيدخلون في مكابدة حقائقها الإيمانية ما
شاء الله، فلا ينتقلون إلى غيرها إلا بعد نجاحهم في ابتلاءاتها! ومن ثم
يصير حفظ القرآن بهذا المسلك مشروعَ حياة! وليس مجرد هدف لِسَنَةٍ أو
سنتين، أو لبضع سنوات!
إن
الذي لا يكابد منـزلةَ الإخلاص، ولا يجاهد نفسه على حصنها المنيع، ولا
يتخلق بمقام توحيد الله في كل شيء رَغَباً ورَهَباً؛ لا يمكن أن يُعْتَبَرَ
حافظا لسورة الإخلاص! وإن الذي لا يذوق طعم الأمان عند الدخول في حِمَى
"المعوذتين"، لا يكون قد اكتسب سورتي الفلق والناس! ثم إن الذي لا تلتهب
مواجيدُه بأشواق التهجد لا يكون من أهل سورة المزمل! كما أن الذي لا تحترق
نفسه بجمر الدعوة والنذارة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس من
المتحققين بسورة المدثر! ثم إن المستظهر لسورة البقرة، إذا لَمْ يُسْلِمْ
وَجْهَهُ لله في كل شيء، ولم يسلك بها إلى ربه، متحققا بأركان الإسلام
وأصول الإيمان، متخلقاً بمقام الجهاد في سبيل الله، صابراً في البأساء
والضراء وحين البأس، متنـزها عن المحرمات في المطعومات والمشروبات ..إلخ،
واضعاً عنقَه تحت رِبْقِ أحكام الشريعة، في دينه ونفسه ومالِه، متحققاً
بِخُلُقِ السمع والطاعة لله على كل حال، من غير تردد ولا استدراك؛ لا يكون
حافظاً لسورة البقرة! وإنما الحافظ للشيء هو الحافظ لأمانته، المتحقق
بحكمته، العامل بمقتضاه، المكابِدُ لما تلقَّى عنه من حقوق الله!
لقد أجمع العلماء والدعاة على أن هذا الدين - كتاباً وسنةً - مِنْهَاجُ
حياة.. وإنه لن يكون كذلك في واقع الناس، أفراداً وجماعات ومؤسسات؛ إلا
باتخاذه مَشْرُوعَ حَيَاةٍ، تُفْنَى في سبيله الأعمار! وهذه قضية منهجية
أساسٌ لتلقي موازينه الربانية، والتخلق بحقائقه الإيمانية؛ حتى يصبح هو
الفضاء المهيمن على حياة المسلم كلِّها دِيناً ودُنْياً.
إن هذا الهدف العظيم لا يمكن أن يتحقق للإنسان، إلا بعقد العزم على الدخول
في مجاهَدات ومكابَدات مستمرة؛ للتحقق بمنازل القرآن ومقاصده التعبدية، من
الاعتقاد إلى التشريع، إلى مكارم الأخلاق وأشواق السلوك.. سيراً بمسلك
التلقي لحقائق القرآن الإيمانية، والمكابدةِ الجَاهِدَةِ لتكاليفها
الشرعية، والسير إلى الله من خلال معراجها العالي الرفيع! ثم تتبع آيات
القرآن، من أوله إلى آخره، آيةً آيةً؛ حتى يختم كتاب الله على ذلك المنهاج!
وإننا لَنَعْلَمُ أن الكمال في هذه الغاية هو مما تفنى دونه الأعمار! ولكن
ذلك لا يلغي المقاربة والتسديد! وإن أحق ما توهب له الأعمار كتاب الله!
لقد كان الواحد منهم إذا تلقى الآية، أو الآيتين، أو الثلاث.. يبيت الليالي
يكابدها، قائماً بين يدي ربه - عز وجل - متبتلاً! يُلْهِبُ نَفْسَهُ
الأمَّارةَ بسياطها، ويبكي ضعفه تجاه حقوقها، وبُعْدَ المسافة بينه وبين
مقامها! فلا يزال كذلك مستمرّاً في صِدْقِهِ الصَّافِي ونشيجه الدامي؛ حتى
يفتح الله له من بركاتها، ما يرفعه عنده ويزكيه! فإذا كان النَّهَارُ
انطلقَ مجاهداً بها نَفْسَهُ، في أمورِ مَعَاشِهِ ومَعَادِهِ، وداعيا بها
إلى الله مُعَلِّماً ومُرَبِّياً، أو مقاتلاً عليها عدواً، شاهداً عليه أو
مستشهداً!
منقول بتصرف ....فريد الانصاري
الموضوع : في تحديد الوجهة المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya