السيد أبو داود
من يتأمل مشهد الرئيس المخلوع حسني مبارك وهو يواجه المحاكمة والسجن، بعد أن ذاق ذل السقوط والإجبار على التنحي وترك السلطة، لابد أن يقول: سبحان المعز المذل، الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء وهو على كل شيء قدير. فالشيء الوحيد الذي كان غائبًا عن خاطر مبارك وتصوره هو ما يحدث له الآن، ولعله مازال غير مصدق، ولعله مازال مذهولًا من هول ما جرى له.
ومن يتأمل المشهد بصورة أعمق لا بد أن يصل لقناعة؛ وهي أن الله سبحانه وتعالى لا يختم لإنسان بهذه الخاتمة إلا إذا كانت ذنوبه وآثامه عظيمة في حق أمته وشعبه. ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء، ففيه من الذل والانكسار والألم النفسي الكثير الذي لا يكاد يتحمله الإنسان.
وإذا كان هناك البعض من المخدوعين الذين يتعاطفون مع الفرعون ويرفضون محاكمته، فإن هؤلاء ربما لم يطَّلعوا على جرائمه. فمن هذه الجرائم ما فعلته قوات أمنه الخاصة من قتل العشرات من النشطاء الإسلاميين قنصًا في الشوارع منذ بداية حقبة التسعينات من القرن الماضي، ومنها أحكام الإعدام في حق الكثيرين، والتي تمت بناءً على محاكمات عسكرية موجَّهة سياسيًا، ومنها اعتقال مئات الآلاف دون تهمة لسنوات طويلة بمقتضى قانون الطوارئ، لأن سيادة الرئيس وأجهزة أمنه لا تستريح لهم، ومنها مصادرة أموال الناس وشركاتهم ظلمًا وعدوانًا، ومنها نهب المليارات من أموال المصريين الفقراء وتركهم يعانون في الوقت الذي خان مسئوليته عنهم أمام الله، ومنها توزيع أراضي مصر على أصدقائه وحاشيته وأصهاره، وحرمان المصريين البسطاء منها، ومن هذه الجرائم موالاة أعداء الله، وإقامة أعمق الصداقات معهم، خيانةً لله وللدين وللأمة، بل ونصرة لهؤلاء على المسلمين، ومنها بيع ثروات مصر لليهود بثمن بخس، ومنها قتل المتظاهرين السلميين الذين خرجوا بصدورهم العارية يقولون لا للظلم.
إن هؤلاء الذين يرفضون محاكمة مبارك وسجن أبنائه يتأثرون بما قاله للمحققين أَن افعلوا بي ما شئتم، ولكن اتركوا أولادي. الآن فقط تذكر الفرعون أولاده وخاف عليهم وعلى مصيرهم. لم يتذكر أولاده وهو يعتقل أولاد الناس بطريقة هستيرية، منهم طالب الجامعة الذي أخرجته الثورة من السجن بعد أن ظل تسع سنوات في غياهب السجن بلا تهمة أو محاكمة، ومنهم الجزار الذي أخذه زبانية فرعون في إحدى القضايا بالشبهة وحاكموه عسكريًا وحكم عليه بعشر سنوات ولكنه مرض ومات مهمومًا محسورًا وترك أبناءه الصغار يعانون الفقر والتشرد. السجل حافل ويرد على أي مخدوع يتعاطف مع الإجرام والوحشية والطغيان.
لو كان مبارك قد فكّر في مستقبل أولاده بما يرضي الله لتذكر قول الله تعالى: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا) [النساء:9]. ولو كان يدرك أن فعل الأب الصالح يستفيد منه أبناؤه لكان قد فعل صالحًا وغلّ يده عن الحرام، لكن الواقع يقول إنه لم يقرأ ولم يتفاعل مع قول الله تعالى: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) [الكهف:82]. فمن ملأ سجلَّه بظلم الناس، ومن لوَّث يديه بالدم الحرام، ومن نهب ثروات بلاده، ومن خان مسئوليته التي حمَّله الله إياها، ليس من حقه أن يطالب الناس اليوم بأن يحافظوا على أبنائه، فلا يحققوا معهم ولا يحاكموهم ولا يسجنوهم.
إن مبارك يريد أن يعطِّل سنن الله في كونه، ولا يعلم أن هذه السنن قوانين مطردة، المعطيات المحددة فيها تؤدي إلى نتائج محددة. إنه يعز عليه أن يختم حياته سجينًا ذليلًا ويعتبر نفسه صاحب فضل على أمته، وأنه يستحق تقاعدًا كريمًا، وأن يبقى زعيمًا في نفوس المصريين. وهذا خلط في الفهم وجهل وطمع وأنانية. فلو كان الرجل قد صان ذمته وراقب الله وعف نفسه عن الحرام وظل رئيسًا شريفًا عادلًا نزيهًا، لوضعه الناس على رءوسهم، أما السارق والناهب والظالم ومقترف كل أنواع الآثام، فإن توصيفه هو أنه ليس زعيمًا بل مجرم وصل إلى الكرسي عن طريق الخطأ. ولنفرض أنه كان إنسانًا لا يستحق ثم أنعم الله عليه بالملك والسلطان، فأهل الفهم والعقل يعلمون أن ذلك ليس منحة دائمة وتفويضًا مستمرًا من الله له، ولكنه مرهون بما إذا كان سيأخذ الأمر بحقه أم يحيد عن الحق، وصدق الله العظيم القائل: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف: 175-176].
ولو خاف مبارك على مستقبل ابنيه لكف يديهما عن الحرام، ولنهرهما ولراقبهما، ولكنهما رأياه يرتع فرتعوا، ويتجاوز فتجاوزوا، ويسرق فسرقوا، ويظلم فظلموا، ولو رأوا أمامهما القدوة الحسنة والأمانة والعدل لنشآ على هذه القيم، ولما كان مصيرهما السجن والإذلال.
بعد أن علم مبارك بأنه محبوس احتياطيًا، كان من الطبيعي أن تسوء نفسيته، فقرار الحبس والمحاكمة أصعب على النفس من قرار العزل والإسقاط والتنحي. فالتنحي كان خسارة لمجد طويل، وكان يمكن أن تندمل آثاره النفسية خلال عدة أشهر إذا ما أتيحت حرية السفر والتمتع بالمليارات. أما المحاكمة فمعلوم بدايتها ولكن نهايتها غير معلومة، ففيها الحبس والإهانة والذل وتقييد الحرية وفضائح المعلومات التي يتداولها العالم كله بخصوص ذلك، وقد تكون النهاية الأسوأ بحكم الإعدام، وهو أمر وارد.
وإذا تجاوزنا الجانب الشخصي في القضية لقلنا: إن التأخر الشديد في التحقيق مع مبارك قد أزعج المصريين وأخافهم على ثورتهم التاريخية، وكانوا يشعرون بأن بقاء الرئيس المخلوع دون محاكمة يعني أن الثورة لم تحقق أهدافها كاملة، ويعني إمكانية قيادته لثورة مضادة. وتعاظمت مخاوف المصريين حينما استمعوا إلى كلمته في قناة "العربية" وهو يهدد ويتوعد ويتحدث كما لو كان ما يزال رئيسًا.
خطاب مبارك هذا كان بمثابة الحبل الذي لفَّه بنفسه على عنقه، لأنه استفز الناس بصورة كبيرة، كما وضع قادة القوات المسلحة في موقف حرج. فالمصريون يتحدثون فيما بينهم عن أن السبب في تأخير محاكمة الفرعون كان وعدًا من قيادة الجيش بعدم المحاكمة مقابل سرعة التنحي، ثم جاءت كلمة قناة العربية المستفزة فخرجت المظاهرة المليونية التي ضغطت على الجميع من أجل سرعة البَدْء في المحاكمة، وعدم الالتفات لأي وعد قد يكون اتُّخذ في ظرف معين.
ويبقى المغزى السياسي في محاكمة المصريين للفرعون، وهو مغزًى تاريخي وشديد العمق، ويمكن أن يشكل نهاية لما عاناه المصريون عبر التاريخ من تجبر حكامهم واستهانتهم بشعبهم. فسوف يظل أي حاكم يحكم مصر مستحضرًا مشهد هذه المحاكمة ومستحضرًا مشهد المصريين وهم ينتصرون على الخوف، ومستحضرًا تصميم المصريين على إذلال الفرعون الذي استضعفهم وقمعهم ونكَّل بهم، وكأنما ينتقمون في شخصه من كل الفراعنة الذين حكموا مصر.
وما يستوقف الكثيرين في أمر محاكمة مبارك هو الحرص على أن تكون المحاكمة أمام المحاكم العادية (غير الاستثنائية) وبالقانون العادي، فرغم إشادة البعض بذلك على اعتبار أنه نبل من الثورة وتعبير عن روح التسامح، إلا أن ذلك لا يريح كثيرًا من المصريين الذين يقولون: إننا لا نظلمه إذا حاكمناه عسكريًا، فهو الذي بدأ بالمحاكمات العسكرية، وجعلها الفيصل بينه وبين خصومه الذين كان يراهم أكثر خطورة، وهو الذي أوجد محاكم أمن الدولة، وتوسع في القوانين الاستثنائية، فلماذا لا نحاكمه بقوانينه هو وبمحاكِمه هو؟ فالقصاص والعدل يقتضيان أن يشرب من ذات الكأس التي سقى منها شعبه سنوات طويلة.
والأمر الذي يُشعر الإنسان بالقلق فيما يخص هذه المحاكمة هو أن التحقيقات حتى الآن تتم في التجاوزات المالية والكسب غير المشروع، وفي هذا تبسيط للجرائم غير مقبول، فالجرائم السياسية التي ارتكبها الفرعون السابق كانت خطيرة، وقد ذكرنا بعضها، ويجب أن يحاسَب على أساسها، فجريمة واحدة منهم، مثل قتل المتظاهرين، يستحق عنها الإعدام، أما محاكمته بتهمة الكسب غير المشروع، فهي تهمة فرعية كان يجب أن تكون آخر التهم وليس أولها.
يتحدث كثير من المصريين عن أنه كان من المنطقي أن تشكَّل محكمة ثورة لنظام مبارك، وهذا يحدث في كل الثورات، ولن تكون بدعة تبتدعها ثورة 25 يناير. فحجم القضايا التي تحال إلى النيابة العامة ضخم ولا يكاد يصدقه أحد، فجميع أركان نظام مبارك وأسرته وحاشيته متورطون في تشكيلة غير متناهية من الجرائم السياسية والمالية، وهذا يحتاج إلى محكمة خاصة، بل إلى قانون لمحاكمة الرئيس والوزراء، فما هو متاح في القانون المصري حاليًا لا يسهِّل محاكمة هذه الرموز السياسية الكبيرة، ولذلك فكانت الضرورة تقتضي صدور قانون للمحاكمة، حتى لا نفاجأ بأحكام البراءة تتوالى على هؤلاء الفاسدين الذين سيوكّلون عنهم أمهر المحامين.
وللذين مازالوا متعاطفين مع مبارك، نقول: بماذا تفسرون أن كل أركان النظام أحيلوا إلى المحاكمة، وعشرات التقارير من الجهات الرقابية في الدولة تدينهم وتؤكد فسادهم؟ رغم أن المؤكد أن هؤلاء الفاسدين بذلوا وُسعهم من أجل إخفاء آثار جرائمهم؟ والجهات الرقابية التي قدمت التقرير جهات موجودة بالفعل، وكان هؤلاء الفاسدون يرأسونها، أي أن تقارير الإدانة لم تقدمها جهات أنشأتها حكومة الثورة لهذا الغرض؟ وهذا يؤكد أنه رغم إخفاء الكثير من الجرائم إلا أنه نتيجة لكثرتها وتنوعها استطاعت أجهزة الرقابة أن تمسك بعضها وفيه ما يكفي للإدانة.
إن المنطق والتاريخ وطبائع الأشياء تؤكد أن الحاكم الفاسد لا يمكنه ولا في مقدوره الإصلاح، وإنما ظلمه لشعبه جاء نتيجة أنه فاسد. ومن المنطق أيضًا أنه يستحيل أن يكون الرئيس نزيهًا شريفًا في حين أن كل أركان نظامه فاسدون، وإلا لاكتشفهم وحاسبهم، وربما يفلت وزير أو مسئول بفساده ويخفى أمره على الرئيس، أما أن يكون جميع المحيطين بالفرعون فاسدين فهذا معناه أنه أكبر فاسد، وأنه قدوتهم في الفساد. كما أنه يستحيل أن يكون الرئيس فاسدًا ومَنْ تحته نزيهًا. فالمسئول الذي يقف على أسرار سرقات الرئيس يقوى قلبه على السرقة، ولا يخاف الحساب. وما أروع كلام الصحابي لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عففت فعفت رعيتك ولو رتعت لرتعوا".
الموضوع : محاكمة حسني مباركـ المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: الحجازية