الهجرة وواقع الأمة
د. علي بن عمر بادحدح
أما بعد معاشر المؤمنين :
عام مضى وانقضى، وعام آخر حل وأتى، أسأل الله عز وجل أن يتقبل منا صالح العمل فيما مضى، وأن يغفر ويستر ما كان من القصور والزلل، وأن يعيننا فيما يأتي لصالح العمل إنه جل وعلا ولي ذلك والقادر عليه .
وهذا التاريخ الفاصل بين عام وعام يتكرر في كل عام، وهو محطة توقف لكل ذي لب ليراجع مسيرته، ويصحح مساره، ويستدرك نقصه، ويقوّم خطأه والأمة كلها تحتاج كذلك إلى مثل هذه الوقفات سيما وأن هذا التاريخ يربطنا بحدث عظيم فاصل ليس في تاريخ الإسلام فحسب؛ بل في تاريخ البشرية كلها، هجرة النبي صلى الله عليه وسلم منعطف تغيير شامل كامل في بناء المجتمع والأمة الإسلامية وفيما أثرت به هذه الأمة على من حولها وإلى يومنا هذا، ولعلنا اليوم نقف مع الهجرة وواقع الأمة لنتأمل كثيراً من المعاني المهمة التي نحتاج إليها، وأولها وفي مقدمتها :
حمل الأمانة وأداء الرسالة :
لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم لا يعيش لنفسه ولا لذاته، ولا يحمل هم أهله أو أسرته، لقد كلفه الله عز وجل بالتكليف العظيم وحمله الأمانة الضخمة التي ناءت بحملها السماوات والأرض والجبال { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [الأحزاب : 72].
وأمة الإسلام أمة رسالة وأمانة، لننظر كيف حمل النبي صلى الله عليه وسلم أمانته، وكيف أدى رسالته، هل كانت مهمة ثانوية تأخذ جزءاً من وقته؟ هل كانت أمراً عارضاً يعطيها شيئا من جهده أو ماله؟ لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم لرسالته، لقد كانت مع كل نبضة من نبضات قلبه وفي كل خاطرة من خطرات فكره، ومع كل كلمة من كلمات لسانه، وفي كل حركة وسكنة من حركات جوارحه، ولذلك ننظر إلى الهجرة في هذا المساق من خلال سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، دعا قومه بكل الوسائل، أقبل عليهم مرغباً، وجاء إليهم مرهباً، اجتمع بكبرائهم ودعا خدمهم وعبيدهم، وتنقل في مجالسهم وغشي مجتمعاتهم، وكان في كل ذلك يلقى الكثير من الصد والإعراض، بل والسب والإيذاء، فهل أغلق بابه على نفسه؟ وانتهى من هؤلاء القوم الذين يمكن أن نقول لا أمل فيهم ولا خير يرجا منهم، وهل كان يرى أنهم يسعون إلى حتفهم بأنفسهم؟ وماله ولهم إذا اختاروا طريق النار فليردوها، وإذا اختاروا طريق السوء فليجنوا عواقبه الوخيمة، لم يكن كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان كما وصفه الله جل وعلا: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً } [الكهف : 6]، لعلك يا محمدٌ مهلك نفسك من شدة لومها ومن كثرة همها، ومن عظم غمها، ومن كثير حزنها على أحوال الذين أعرضوا عن دين الله، والذين تنكبوا طريق الله، لم تحمل همهم؟ لأنه يحب الخير للناس، ويريد استنقاذهم من النار، ويريد إخراجهم من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الحق، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ } [الكهف : 6] أي تتبع آثارهم وتذهب إليهم، لا تقعد في مكانك حتى يأتوا إليك، والحق أحق أن يؤتى إليه، وهم الذين يحتاجون إليك، كلا! بل كان وصفه أنه منذ انشقاق فجر كل يوم يسعى ويذهب ويدعو ويقنع ويعرض ومع كل هذا الصد والإعراض يحزن عليهم، ويصف هو صلى الله عليه وسلم حاله بقوله: ( إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فجعل الفراش والهوام يقعن فيها وجعل يذبهن عنها، فأنا آخذ بحجزكم من النار) (1) كان هذا همه، ولذا لما رأى في مكة أبوابا مغلقة وقلوبا موصدة وعقولا متحجرة لم يستسلم، بل التمس الطريق إلى الطائف يلتمس فيها لله أنصارا وعلى الحق أعواناً وللدين أتباعاً فوجد شر ما يجد قادم إلى بلد، وضيف على قوم، وجد ذلك الصد والإعراض وإغراء السفهاء، وقذف الحصى حتى دميت أقدامه عليه الصلاة والسلام، وكان أمراً عظيماً أخبرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "أن أشد ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم هو ذلك الصد والإعراض، حتى أنه خرج هائماً مرة على وجهه من كثرة غمه لا يدري إلى أين يتجه، قال: (فلم أستفق إلا بقرن الثعالب)" (2) هكذا كان يعيش النبي صلى الله عليه وسلم أمانته ودعوته ورسالته، كانت في كل نبضة قلب وكانت كأنما هي دم يجري في عروقه، ولذا التمس الطريق، ورجع من الطائف وظل في كل موسم من المواسم يعرض نفسه على القبائل، من قبائل اليمن إلى قبائل نجد إلى غيرها، وفي كل مرة لا يجد مستجيباً ولا مجيباً، ولذا كان الأمر من بعد في الهجرة لنرى أن الهجرة إنما هي وسيلة من وسائل الدعوة وعملية من عمليات المواصلة والاستمرار لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة، لم تكن فراراً ولا هروباً، لم تكن طلباً للسلامة ولا إيثاراً للراحة، وإنما كانت جولة جديدة، واليوم عندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم، في ذلك التاريخ من مكة إلى المدينة فقد خط تاريخاً جديداً، وقد رسم طريقاً وخطوات للنصر الذي أتمه الله عليه وعاد إلى مكة فاتحاً ومنها فتح ما حولها كذلك، ولكن هنا درسنا الأول، هل تحمل الأمة هم رسالتها؟ وهل هي مجندة لأداء أمانتها؟ وهل هي سائرة خلف رسولها في تبليغ دعوته {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف : 108].
ونلاحظ أمراً آخر هنا: وهو أمر العزيمة الماضية والإرادة الحاسمة التي لا ينال منها يأس ولا يوقفها عقبة في الطريق كما نرى اليوم في حال أمتنا بعد أن تكالبت عليها الأعداء بدأت بعض الصور التي تعلن أنها قد تبرأت من رسالتها، وأنها قد شطبت من دينها أجزاء مما قد ثبت بكتاب الله أو بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل بعضهم يقولون إننا لا ندعوا إلى الإسلام، نحن لا نريد من أحد أن يدخل في الإسلام، نحن لا نريد أن ننشر القرآن ولا ترجمات معانيه، نحن لا نريد أن نوزع الكتب ولا الأشرطة، نحن نبرأ إلى الله عز وجل –والعياذ بالله- من أننا نحمل هذا الدين لكل الناس، وننشر هذا الدين في كل الظلمات، ما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاشاه عليه الصلاة والسلام، إنه في هذه الهجرة يقول لنا وتقول لنا سيرته ويحكي لنا واقع الأمة أننا نحتاج إلى درس الهجرة في حمل الأمانة وأداء الرسالة وتجنيد كل شيء في واقعنا لذلك، فلئن فعلنا فسوف تصلح أمور دنيانا، وسوف يعود لنا عزنا، وسوف يكون من أحوالنا ما نبرأ فيه من عللنا وأدوائنا، ولذا نقول كان في هذا الدرس الهم والغم لأجل دين الله، ولأجل رسالة الإسلام، وكان فيه الإصرار والثبات لأجل تبليغ هذه الدعوة، وكان هناك الانتقال والتحرك والتغيير وترك الأرض والديار والأموال لا لشيء إلا لأجل الله عز وجل ولأجل دينه ولأجل دعوته سبحانه وتعالى، ويوم تصبح أمة الإسلام، أمة محمد صلى الله عليه وسلم تحمل الهم الذي حمله، تبلغ الدعوة التي بلغها، وتعيش كما عاشها وكما أمر بها عليه الصلاة والسلام { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } [المدثر: 1-7]، يوم نؤطر هذا المعنى الذي خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في أول بعثته وهجرته أن يكون منبعثا للإنذار والدعوة وتبليغها لكل الناس في كل البقاع وفي سائر الأزمان، وهذا أمر مهم لو فقهه كل واحد منا قبل أن نلقي باللوم على الحكام أو على العلماء، أين دورنا في ذلك؟ أين دورنا حتى فيما هو تحت أيدينا؟ هل نحن بالفعل حملة رسالة نعيش لأجلها ونموت لأجلها ونضحي لأجلها؟ كما ضحى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أمر مهم ينبغي أن ننتبه له، كثيرة هي الثغرات وكثيرة هي صور التقصير التي بها لا نستحق ذلك النصر الذي نأمله، وذلك الفرج الذي نرتقبه لأننا لم نبذل له بذله، ولم نقدم له عربونه { إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [محمد : 7]، { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [الروم : 47].
وأمر ثانٍ نرقبه وننظره في هذه الهجرة العظيمة:
لقد خرج محمد صلى الله عليه وسلم في يوم هجرته من موقف عصيب، السيوف مسلطة مشرعة، والفرسان يحيطون ببيته، وأصحابه قد سبقوه إلى الهجرة، والحال في غاية الكرب والشدة، ورغم ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مطمئن القلب، ثابت الجنان، وهو يحمل التفاؤل والأمل وفي صدره اليقين بنصر الله سبحانه وتعالى، واليوم أمتنا قد استلبت أرضها، وانتهكت أعراضها، وأزهقت دماءها وتفرقت كلمتها واختلف أبنائها وكأننا بها وهي في حال عصيبة لكن اليأس يدب اليوم في قلوب الناس، إلا من رحم الله، ولكن الهجرة والمهاجر الكريم صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك، رغم هذا الحصار كان ينظر إلى فسحة الأمل الواسعة العريضة، وهكذا ينبغي أن يكون حال أمتنا وواقعها، { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } [الشرح : 5-6]، و(لن يغلب عسر يسرين) (3) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، { َالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف : 128] كما أخبر الق جل وعلا، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } [النور : 55]، خرج النبي صلى الله عليه وسلم والحصار محدق به، والخطر متربص به في كل حركة وسكنة، خرج تحفه رعاية الله، ويحثو كما تذكر بعض الروايات التراب فوق رؤوس الجنود الذين ألقي عليهم النوم، ثم يمضي إلى طريق آخر غير التي يتوقع أن يسلكها، وفي الطريق كما تعلمون يدركه من بعد فترة من الزمن سراقة بن مالك، ويبشره المهاجر المطارد عليه الصلاة والسلام فيقول: (كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى وتاج ملكه) عجبا من هذا التفاؤل العظيم، والأمل العريض، كان النبي لا يعلم المصير الذي يقدم عليه، كانت ليست في يديه أي أسباب من أسباب الدنيا أو القوة، لكنه كان واثقاً بوعد الله عز وجل، ومستيقنا بنصر الله سبحانه وتعالى، ويوم يكون في الأمة وفي أفرادها هذا اليقين الجازم الذي كان عند الأنبياء والمرسلين يقينا لا يخالطه شك مطلقاً، إذا كانوا على أمر الله، وإذا استقاموا على نهج الله، وإذا أرادوا إعلاء كلمة الله فإن الأمر عاجلا أو آجلاً ستكون عاقبته إلى خير.
موسى عليه السلام خرج وفرعون يتبعه بجنوده، والبحر من أمامه، والنتيجة كما يقولون محسومة، ضعاف الإيمان الذين لم يتشربوا حقيقة اليقين { قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [الشعراء : 61]، انتهى الأمر، لا شك في أننا سنفنى ونبيد، ليست لدينا قوة ولا سلاح، وخلفنا جيش جرار وأمامنا بحر هادر، من ذا الذي يفكر في أن ثمة مخرج، قالوا هذه الكلمة: إنا: بالتوكيد، لمدركون: واللام في محل جواب القسم، كأنهم يقسمون على ذلك، والإدراك: الإحاطة من كل جانب، يعني ليست هناك أية فرصة للنجاة مطلقاً، فكيف كان جواب كليم الله عليه الصلاة والسلام، بكل قوة وبكل جرأة، وبكل ثقة { كَلَّا } كلام مرفوض، ووهن غير مقبول { كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء : 62]، وقالها صلى الله عليه وسلم يوم قال أبوبكر: "لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا" ليس بين القوم وبين اكتشاف موقع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ينظر أحدهم إلى موضع قدميه وتنتهي المسألة ويقبض على الهاربين، فكان جواب اليقين من سيد الخلق عليه الصلاة والسلام (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) (4) { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } [التوبة : 40]، تأمل هذا النص القرآني الفريد، ولننظر إلى هذا الواقع المؤلم اليوم، ولنقرأ فيه بشائر النصر بإذن الله عز وجل، فإننا اليوم ندرك أن أعداء الإسلام ما تجمعت قواهم، ولا حشدت جيوشهم ولا تعاظمت مؤامراتهم إلا لأنهم يخشون هذه الأمة ويخافون منها، وأدركوا أنها بدأت تعود إلى عافيتها، وتسترجع أسباب قوتها، وتستمد من نعيم عزتها، رغم كل ما فيها من تلك الصور السلبية وهذا مؤشر خير واليوم عادت لنا كثير وكثير من بشائر الخير التي نوقن بنصوص كتابنا ونصوص سنة نبينا أنها قادمة، فلتستصحب الأمة الأمل والتفاؤل، وليس هذا غريباً أو منكراً وسنرى له تصديقا فيما سيأتي، لكن روح التخاذل والضعف قد نبذها النبي صلى الله عليه وسلم، ونبذها أصحابه الذين علمهم حتى في أشد الظروف وأحلكها، بل في أقسى المواقف وأشدها، في يوم أحد على سبيل المثال، يوم أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فجلس بعض الصحابة، ماذا يفعلون؟ انتهى الأمر، هكذا سمعوا، وقال بعضهم: "لئن مات محمد صلى الله عليه وسلم فلنمت على مات عليه" وهكذا قالها أبوبكر رضي الله عنه يوم حق الأمر على رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقال: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت" والله عز وجل ناصر أمة محمد عاجلاً أو آجلاً، والله عز وجل لا يخلف وعده، ولا يبطل سنته التي قررها في نصر عباده المؤمنين.
ومعلم ثالث نحن في أشد الحاجة إليه، وهو من الأمور التي اختلطت فيها الرؤية وعظمت فيها الشبهة، وتكثرت فيها الأقوال المضلة والجاهلة، وهو أمر التوازن بين جهد البشر وصدق التوكل على الله سبحانه وتعالى، لقد أتقن المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة الأخذ بكل الأسباب، من عقبة أولى، وعقبة ثانية، ومبعوث للدعوة، وأصحاب يهاجرون قبله، وأرض تتهيأ ومجتمع ينتظر، ثم سرية محكمة وتخطيط دقيق، ثم ماذا بعد هذا؟ هل ركن محمد صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وهل كان قلبه معلق بهذه الأسباب، وهل كان ظنه أن خطته هي التي ستنجحه؟ كلا، كان يعلق حبله بالله عز وجل، كان يوقن بأن كل أمر من فلاح أو نجاح أو عز ونصر بيد الله سبحانه وتعالى وحده، ولذا لما قال أبوبكر مقالته، كأنما يقول قد أحكمنا التخطيط وأحسنا التدبير وغيرنا الطريق وعملنا كل شيء وها هو الآن على فم الغار، وهنا يقول عليه الصلاة والسلام: (الله ثالثهما) من قبل ومن بعد، في كل لحظة فلتعد الأمة عدتها، ولتعالج أوضاعها، لكنها قبل ذلك وأثناء ذلك وبعد ذلك ينبغي أن تكون موصولة بربها { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [آل عمران : 126].
يقين لا بد أن يكون جازماً، لا توفيق إلا من الله { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ } [البقرة : 282]، كل شيء بيد الله سبحانه وتعالى، كل خير يجلب، كل ضر يدفع، كل ذلك يقيننا الجازم ليس في مجرد الذهن وإنما في واقع العمل يكون كذلك، ويوم نحسن الأخذ بالأسباب ونعلق هذه الأسباب ومسبباتها بالله عز وجل يأذن الله سبحانه وتعالى بالنصر، وهكذا ينبغي أن تصنع أمتنا اليوم، نحن نفرط في الأسباب ولا نتعلق بمسبب الأسباب، وأحياناً كلما عظمت الأسباب زاد الركون إليها، وظن الإنسان أنه بها قادر على أن ينال مراده وأن يحقق هدفه، بل إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقع من بعضهم شيء من ذلك، يوم حنين لما كان عددهم قد بلغ اثنا عشر ألفاً قال بعض مسلمة الفتح: "لن نغلب اليوم من قلة" اليوم صارت لنا قوة، وعندنا أعداد، هنا جاء الدرس الرباني بهزيمة في أول المعركة { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } [التوبة : 25]، هكذا أراد الله عز وجل أن يلقنهم الدرس مباشرة ليعلموا أن الأمر ليس بكثرة الأعوان، ولا بقوة السلطان ولا بالحجة والبرهان، ولا بفصاحة اللسان، إنما هو بعون الرحمن سبحانه وتعالى، فعلق حبالك في الله في كل شيء، طلابنا يقبلون على الاختبارات، اليوم الذي يضيق وقتهم أو يعسر أمرهم أو يمرض أحدهم فتسأله عن الاختبار، يقول خليها على الله، لأنه لم يستعد، واليوم الذي يكون قد استعد فتسأله فيقول: كل شيء على أتم وأكمل وجه، وينسى مرة أخرى أن يقول في كل حال هي على الله عز وجل، وفي كل عمل نحن لا نثق بأسبابنا وأعمالنا التي هي مطلوبة منا ومشروعة لنا، إلا أنه لا نعلق بها أسبابنا ولا ننيط بها رجاءنا بل الأمر كله لله وبالله وعلى الله ومن الله، كن مع الله يكن الله سبحانه وتعالى معك، واستشعر أن كل بذل تبذله لا يؤدي أثره ولعلنا نستحضر هنا امرأة في أثناء المخاض ضعيفة وعند طلق الولادة تكون في أشد حالاتها ألماً وكرباَ وضعفاََ والله يخاطبها فيقول: { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } [مريم : 25]، من يهز النخلة، هل رأيتم أحداً يخرج ما في النخلة من تمرها وثمرها بهزها، ولو كان من الرجال الأشداء، فكيف يطلب ذلك من امرأة وعملت ما أمرت به، فهزت وتساقط الرطب جنياً، لا بهزها ولكن بأمر ربها سبحانه وتعالى، هل ندرك أن علينا أخذ هذه الأسباب وأما النتائج التي وراءها فقطعا ليست إلا من مسبب الأسباب سبحانه وتعالى، قد نحشد قوتنا اليوم وها نحن نطالب أمتنا وقادتنا أن يعدوا صفوفهم وأن يعدوا جيوشهم وأن يواجهوا أعداءهم وأن يفعلوا واجبهم المشروع عليهم والمفروض عليهم، ولكننا قبل ذلك لا بد أن نقول فلنعد كلنا إلى الله عز وجل، ولنعلق حبالنا به سبحانه وتعالى.
الموضوع : الهجره وواقع الامه المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: وردة الجوري توقيع العضو/ه:وردة الجوري |
|