لحمد لله العزيز الغفار، مقلب الليل والنهار، ليس كمثله شيء
وهو الواحد القهار، وصلاة وسلامًا على عبده ورسوله المختار، وعلى أزواجه
وأصحابه البررة الأطهار، وبعد:
فقد أظلنا شهر مبارك عظيم، وهو شهر رمضان، فيه يزاد الإيمان بكثرة الطاعة،
ويكثر الأعوان على التسبيح والذكر وقراءة القرآن، والتهجد والقيام، ولكن
الحذر الحذر من مداخل الشيطان، وأن يستكثر المرءُ ما قدم من عمل للكريم
المنان،
فلتحذر أيها الموحد العُجب بأنواع العبادة التي تقدمها في رمضان، ولكن عليك
أن تكون من الذين يتوجون عملهم بالخوف من عدم القبول، بعد أن يكون موافقًا
لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهذا حال المقبولين لقوله تعالى: إِنَّ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ
خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ (59)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى
رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ
لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون: 57- 61]، فهؤلاء السابقون يعملون ويخافون عدم
القبول، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت: هو الذي يسرق ويزني
ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل ؟ قال: «لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين
يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك يسارعون في
الخيرات». [السلسلة الصحيحة 162].
والعاملون حقًا يخافون أن تنالهم هذه الآية: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ
ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ
مِنْ سُوءِ
الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ
يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر: 47]، فيخافون الرياء والسمعة، ويخافون
حبوط
الأعمال ؛ لأنهم يعلمون أن الله يتقبل من المتقين: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ
اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة: 27]، ويخافون أن يظهر لهم أن الله لم
يتقبل منهم.
فعليك أيها الموحد الكريم أن تأتي بجميع أنواع العبادات المشروعة في رمضان،
وإياك ثم إياك أن تستكثر عملك لأن الله سبحانه وتعالى نهى عن ذلك، فقال
سبحانه:
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ
(3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلاَ تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ [المدثر: 1- 3]. وذكر الشوكاني في تفسير قوله تعالى: وَلاَ
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي: لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء النبوة
كالذي
يستكثر ما يتحمله بسبب الغير، وقال الربيع بن أنس: لا تعظم عملك في عينك أن
تستكثر من الخير، وقال ابن كيسان: لا تستكثر عملاً فتراه من نفسك إنما عملك
مِنَّةُ من الله عليك إذ جعل لك سبيلاً إلى عبادته، وقيل: لا تمنن بالنبوة
والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرًا تستكثره. [فتح القدير: 325، بتصرف].
ونقل ابن كثير عن الحسن البصري: لا تمنن بعملك على ربك تستكثره. [ابن كثير
4/588].
وعليك أن تكون وَجِل القلب راجيًا القبول من الله سبحانه لعملك القليل في
حق
الله والكثير في نظرك لأنه قليل لو قارنته بعمل كل من:
1- أنبياء الله:
قد تختم القرآن أكثر من مرة في صلاة الليل، ولكن هذا ليس بكثير لو قارنته
بصلاة
النبي صلى الله عليه وسلم الذي قام حتى تورمت قدماه، فعن المغيرة بن شعبة
رضي الله عنه قال: إن
كان النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي حتى تَرِمُ قدماه أو ساقاه فيُقال له،
فيقول: «أفلا أكون
عبدًا شكورًا». [اللؤلؤ والمرجان 1795]. فكان هذا ديدن الرسول صلى الله
عليه وسلم .
وكذلك أثنى الله ورسوله على صلاة داود عليه السلام وصيامه وعبادته وقراءته،
فقال تعالى: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا
الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 17]. والأيد: هي القوة في العمل والعلم
والطاعة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أحب الصلاة إلى الله تعالى
صلاة داود، وأحب الصيام
إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم
يومًا
ويفطر يومًا ولا يفر إذا لاقى، وإنه كان أوابًا». [البخاري 1131، ومسلم
1159].
وكان هذا ديدنه وحاله، يقوم ثلث الليل ويصوم ستة أشهر من العام، وألزم أهله
بشكر الله تعالى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ
الشَّكُورُ [سبأ: 13]، وذكر ابن كثير في تفسيرها: وقد كان آل داود كذلك
قائمين
بشكر الله تعالى قولاً وعملاً، كان داود جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة
فكان
لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي
فغمرتهم
هذه الآية: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ
الشَّكُورُ (ابن كثير 3/785)، فأين أنت من صلاة هؤلاء وصيامهم «فلا تمنن
تستكثر»، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل الصيام أيامًا، وكان إذا
لم يجد طعامًا في
البيت صام ذلك اليوم لله تعالى.
2- ملائكة الله سبحانه:
لا تظن أنك في هذا الكون وحدك تعبد الله وتقوم له، فهناك من خلق الله عز
وجل من
يقوم له حق القيام، ولا يعتبر عمله شيئًا، وأنه ما عبد الله سبحانه وتعالى
حق
عبادته فقال تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ
يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ [فصلت:
38]، ولنتأمل قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكُ وهم الملائكة لا يشغلهم زرع ولا
ضرع
ولا صناعة ولا تجارة عن ذكر الله تعالى وعبادته، ولا يستكثرون عملهم بل
يستقلونه، فعن عدي بن أرطأة قال وهو يخطب على منبر المدائن قال: سمعت رجلاً
من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من خيفته
ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي، وإن منهم ملائكة
سجودًا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى
يوم
القيامة وإن منهم ملائكة ركوعًا لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق الله السماوات
والأرض
ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عز
وجل
قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك». [ابن كثير 4/95 وقال إسناد لا بأس
به].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا
تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ
لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد لو علمتم ما أعلم
لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفُرُشات ولخرجتم
إلى
الصَّعُدات تجأورن إلى الله تعالى». فقال أبو ذر: والله لوددت أني شجرة
تعضد».
[حسنه الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة 1722].
فهذا هو الملأ العلوي بما فيه على اتساعه وامتلائه بالملائكة، حتى لا يخلو
منه
موضع أربعة أصابع ومع سبق خلقهم على الإنس، ومع عدم اشتغالهم بأمور الأولاد
والأموال والزوجات، فهم يعبدون الله ويسبحونه بالليل والنهار وهم لا
يسئمون،
يعني لا يفترون ولا يملون من هذه العبادة ولا يستكثرونها في حق الله، بل
يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، فأين أنت من هؤلاء: وَلاَ تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ، وهم لم يخلق لهم الجنة لينعموا فيها مثلك، وأنت تنعم فيها
جزاء
عملك الصالح: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26].
3- بعض الكائنات:
هذا الكون العجيب المفعم بالأسرار والمخلوقات المرئية وغير المرئية يطيع
الله
سبحانه وتعالى ويسبح بحمده، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ
السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ
وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا
[الإسراء: 44].
فعن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل
على قوم وهم وقوف على
دواب لهم ورواحل فقال لهم: «اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي
لأحاديثكم في الطرق والأسواق فربَّ مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرًا لله
منه».
[صحيح بطرقه. الصحيحة 21].
وهذه الكائنات في ذكر دائم لله تعالى، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه
قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله أَذِنَ لي أن أُحَدِّث عن ديك
قد مَرَقت رجلاه الأرض
وعُنُقُهُ مُنْثَنٍ تحت العرش وهو يقول سبحانك ما أعظمك ربنا، فَيرَدُّ
عليه ما
يعلم ذلك من حلف بي كاذبًا». [صحيح: الصحيحة 150].
فهل تخيلنا عظمة هذا الديك ومكانه وعنقه الذي انثنى تحت العرش، وعمره،
وتسبيحه
لله سبحانه وتعالى دون أن يستكثر ولا يفتر: وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ.
وهناك أيضًا ملائكة لا يعلم عظمة خلقها إلا الله، فعن جابر بن عبد الله:
قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أُذِنَ لي أن أُحدث عن ملك من ملائكة الله
تعالى من حملة العرش
ما بين شحمة أُذُنِهِ إلى عاتقه مسيرةُ سبعمائة سنة». [الصحيحة 151].
فهذه المخلوقات العجيبة لا تفتر عن ذكر الله وتسبيحه وتعظيمه، فأين أنت من
ذكرهم وتعظيمهم وخوفهم من الله تعالى، وأنت لا تشد المئزر إلا في رمضان
وتظن
أنك عملت الكثير: وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ.
أيها الموحد الكريم، اجتهد في العمل في رمضان وغير رمضان، واسأل ربك القبول
ولا
تستكثر، فقد قال عبد العزيز بن أبي رواد: أدركتهم يجتهدون في العمل فإذا
فعلوه
وقع عليهم أنهم أيقبل منهم أم لا، وكان ابن مسعود رضي الله عنه ينادي في
آخر
ليلة من رمضان يقول: ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم
فنعزيه.
وهناك علامات قبول العمل:
1- الاستمرار على الحسنات بعد رمضان والمحافظة على الفرائض والنوافل.
2- انشراح الصدر للعبادة والشعور بلذة الطاعة، فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ.
3- الخوف من عدم القبول، وكان الصحابة يسألون الله سبحانه القبول ستة أشهر
بعد رمضان ويسألونه ستة أشهر أن يبلغهم رمضان.
4- الغيرة للدين والغضب لانتهاك حرمات الله.حتى لو أن العمل قُبل ويكون ذلك
عندما يكون على منهج النبي صلى الله عليه وسلم وخالصًا لوجه الله تعالى
خلا من العُجب والرياء والسمعة فإن العبد يستقل يوم القيامة هذا العمل
لحديث عتبة بن عبد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو أن رجلاً
يُجرُّ على وجهه من يوم
ولد إلى يوم يموت هَرِمًا في مرضاةِ الله عز وجل لحقره يوم القيامة».
[البخاري
في التاريخ الكبير 1/1/15، الصحيحة 446].
فيا أيها الموحد الكريم، شمر عن ساق الجد والاجتهاد في رمضان، وتسربل
بسرابيل
الخضوع والخوف والانكسار والذل للواحد الديان الكريم المنان، فما بك من
طاعة
واستقامة فمن الله، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، وَلاَ
تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ.
اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه إيمانًا بك واتباعًا لرسولك
واحتسابًا للأجر عندك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
مجلة التوحيد
الموضوع : ولا تَمنُن تَسْتَكْثِر المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya