+
----
-
الإمام الباقر وابنه جعفر الصادق رضي الله عنهما
فيقول الله تعالى: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ))[يوسف:111].
أيها المسلمون! ما قرأتُ ولا سمعتُ بسيرة العِترة النبوية، من ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير البرية، إلا استروحْتُ لها شَذاً وعِطراً، ونَزَاهَةً عن كل قولٍ مهين، وعن كل فعل مشين.. كيف لا وقد طهرهم الله تطهيراً! قال تعالى: ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)) [الأحزاب:33].
ومن شَجرة آل البيت الباسِقة الأغصان، الوارِفَة الظِلال، نُسَلِّط الضوء في هذه الخطبة -إن شاء الله- على غُصنين من أغصانها، شَذا عِطرهما يفوح، ونور عِلمهما يغدو ويروح.. هما: أبو عبد الله جعفر الصادق، وأبوه أبو جعفر محمد الباقر، ابن شامةِ الزاهدين زينِ العابدين علي بن سبطِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وريحانته، وأشبه الناس به، سيدِ شبابِ أهل الجنة، أبي عبد الله الحسينِ بنِ أمير المؤمنين، الإمام المبجل، والخليفة الرابع المعظَّم، علي بن أبي طالب، وابنِ الزهراء البتول بنت النبي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
نَسبٌ كأنَّ عليهِ من بدرِ الدُّجىَ نُوراً ومِن فلقِ الصَّباح ضِياءَ
فدونكم هذه الشذرات الفوَّاحة، فأرْعُوني قلوبكم قبل أسماعكم؛ لأنكم أمام إمامين جليلين، ليس لهم مكان من القلب إلا في سُويدائه، ولا من الفؤاد إلا في أحشائِه، كسائر أهل البيت الفُحُول، والصحابة العدول.
أما الأول: فهو الإمام الباقر، من كبار علماء التابعين، كان إماماً مجتهداً، تالياً لكتاب الله، كبير الشأن، جليل القدر، عظيم المنزلة، اتفق الحفاظ على الاحتجاج به، وعده المحدثون من فقهاء التابعين العظام، وأئمتهم الكرام.
وقد بلغ من العلم درجةً عاليةً سامية، حتى إن كثيراً من العلماء كانوا يرون في أنفسهم فضلاً وتحصيلاً، فإذا جلسوا إليه أحسُّوا أنهم عِيالٌ عليه، وتلاميذٌ بين يديه، ولذلك لُقِّب بالباقر: من بَقَر العلم أي شَقَّه، واستخرج خفاياه، وقد كان إلى جانب علمه من العاملين بعلمهم؛ فكان عفَّ اللسان، طاهرَ الجنان، وقد سأله مرة سالم بن أبي حفصة -وكان معه ابنه جعفر الصادق- عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: «يا سالم! أحْبِبْهما وابْرأ إلى الله من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى».
وروى إسحاقٌ الأزرق، عن بسَّام الصَيرفي قال: سألت أبا جعفر محمداً الباقر عن أبي بكر وعمر، فقال: «والله إني لأتولاهما وأستغفرُ لهما، وما أدركتُ أحداً من أهل بيتي إلا وهو يتولاهما». وهذا قول ساطِع، يكشف عن إيمان عميق لهذا الإمام العالم العامل.
كما كان رضي الله عنه زاهداً عابداً كسائر أهل البيت والصحابة الكرام من الرَّعيلِ الأول، الذين كانت العبادة والزهد أهم السِّمات وأبرز الصفات التي تظهر فيهم بجلاء، وتبدو للناظرين في سيرتهم، فقد كان وِرْدُ الإمام الباقر رضي الله عنه في الليل والنهار مائةً وخمسين ركعة.. لم يركن إلى نسبه، ولا خَلَدَ إلى حَسبِه، بل شمَّر واجتهد، وتعبَّد وزهِد.
وكان يقول: «هل الدنيا إلا مركبٌ ركبتُه، وثوبٌ لبسته».
وقال يوماً لجلسائه: «أجْمعَ بنو فاطمة أن يقولوا في أبي بكر وعمر أحسن ما يكون القول».
وقد تزوج من ذرية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تزوج بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وقال وهو يعاني سكرات الموت رحمه الله: «اللهم إني أتولى أبا بكر وعمر، اللهم إن كان في نفسي غير هذا فلا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم».
وسئل مرَّةً عن حِلية السيف من الذهب، فقال: «نعم. كان الصديق رضي الله عنه يحلي سيفه، فقال السائل: أتقول الصديق؟! قال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، من لم يقل الصديق فلا صدَّق الله له قولاً في الدنيا ولا في الآخرة».
أيها المؤمنون عباد الله!
ولقد كان الإمام أبو جعفر الباقر رضي الله عنه في غاية التواضع، مع علو شأنه، ورفعة مكانه، وكان يحتقِر المتكبرين، ويقول: «ما دخل قلب امرئٍ شيءٌ من الكبر إلا نَقص عَقْلُه مقدار ذلك».
كما كان الإمام الباقر -رفع الله درجته، وأعلى مكانته- آيةً في الصبر، وقدوةً في الرضى بما قدره الله وقضى. فلقد مرض ولد له يوماً، فجزع عليه وهو مريض، فلما توفي الابن كفَّ عن الجزع وصبر، فلما سئل عن ذلك قال: «كنت في مرضه أدعو الله له، فلما توفي لم أخالفِ الله فيما أَحَبَّ، فصبرت ورضيت».
تلكم بعض المكارم النبوية، والأخلاق المصْطَفَوِيَّة، والشمائل المحُمدِية، التي ورثها الإمام الباقر عن جده المصطفى النبي المرتضى صلى الله عليه وآله وسلم.
وما زال بها متحلياً، وإليها داعياً، حتى وَدَّع الدنيا، ولكن بعد أن صَبَغ بهذه الصفات الحميدة ابنه الإمام جعفر الصادق، فقد كان كأبيه بسنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم متأسياً، وبسيرة الصحابة الكرام مهتدياً، وبأخلاق آل البيت العظام متحلياً.
أيها المؤمنون! لقد ولد الإمام الصادق سنةَ ثمانين، ورأى بعض الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
كان من أجل علماء المدينة، وقد بلغ من العلم ذروته، ومن الفهم أعلى شأوته؛ ولذلك حدث عنه الأئمة النجباء، ووثقه فحول العلماء.
وسئل أبو حنيفة رضي الله عنه وهو الفقيه المشهور، الذي قيل فيه: الناس في الفقه عِيالٌ على أبي حنيفة. سئل: من أفقه من رأيتَ؟ فقال: «ما رأيتُ أحداً أفقهَ من جعفر بن محمد، هيَّأْتُ له أربعين مسألةً من الصِّعَابِ، ثم أتيت أبا جعفرٍ وجعفرٌ جالسٌ عن يمينه، فلما أبصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلمت وأذن لي فجلستُ، ثم الْتَفَتَ إلى جعفر فقال: يا أبا عبد الله! أتعرف هذا؟ قال: نعم، هذا أبو حنيفة، ثم قال: يا أبا حنيفة! هاتِ من مسائلك نسأل أبا عبد الله، فابتدأت أسأله، فكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا. فربما تابعنا، وربما تابع أهل المدينة، وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخْرِم منها مسألة، ثم قال أبو حنيفة: أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟!».
يا له من وسامٍ عالٍ كبير، من فقيهٍ متبحرٍ نحرير!
وقد كان الإمام جعفر الصادق عليه هيبةُ العلماء، وسِمةُ سُلالة الأنبياء، حتى هابه إمام الفقهاء، أعني أبا حنيفة النعمان.
وقال عمرو بن أبي المقدام: «كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد عَلِمت أنه من سُلالة النبيين».
وقد كان الإمام الصادق يغضَب من الرافضة، ويَمْقُتُهم إذا علم أنهم يتعرضون لجدِّه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد كانت أم الصادق هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وأمها هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان الإمام الصادق يقول: «ولدني أبو بكر الصديق مرتين»، فجدُّه لأبيه علي بن أبي طالب، وجده لأمه أبو بكر الصديق رضي الله عنهما، وهو نسب لم يجتمع لأحد غيره. وقد كان يحب جده أبا بكر، ولما قال له زُهير بن معاوية: إن لي جاراً يزعم أنك تبرأ من أبي بكر وعمر، قال الإمام الصادق: «برئ الله من جارك، والله إني لأرجو أن ينفعني الله بقرابتي من أبي بكر، ولقد اشتكيتُ شِكايةً فأوصيت إلى خالي عبد الرحمن بن القاسم».
ألا فَشَاهت وجوهُ الرافضة الذين يفترون الكذب عليه، وينسبون الإفك إليه! وما كان له إلا أن يمتثل قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ))[الحشر:10].
بل إنه قال لسالم بن أبي حفصة: «يا سالم! أيسُبُ الرجل جدَّه؟! أبو بكر جدِّي، لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة إن لم أكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما»، وقال: «برئ الله ممن تبرَّأ من أبي بكر عمر رضي الله عنهما». قال الذهبي: «وهذا القول متواتر عن جعفر الصادق، وأشهد بالله إنه لبارٌّ في قوله، غَير منافقٍ لأحد، فقبَّح الله الرافضة!».
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
مَلْأَى السنابلِ تَنْحنِي بتواضُعٍ والفارغَاتُ رُءوسُهنَّ شَوَامخُ
عن أيوبَ قال: سمعت جعفراً يقول: «إنَّا والله لا نعلم كل ما يسألوننا عنه، ولَغَيْرُنا أعلمُ منا». ولذلك ارتفعَ قدرُه، وعَظُمَ أمرُه، وانتشر في الأرض خبرُه، وكما قال جده صلى الله عليه وآله وسلم: (ما تواضعَ أحدٌ لله إلا رفعه).
وقد كان رضي الله عنه كريمَ البذل، سخيَّ العطاء، كثيرَ الإنفاق، واسعَ الجود، روى يحيى بن أبي بُكَيْر، عن هيَّاجِ بن بِسطام، قال: «كان جعفر بن محمد يُطْعِمُ حتى لا يَبْقَى لِعياله شيء».
وَلَو لَم يجدْ من مالِهِ غيرَ نفسِه لَجادَ بها فليتَّقِ اللهَ سائِلُه
((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً))[الإنسان].
عباد الله! وما كان للزهد والتقشف أن يخطئ سليل الزهاد، وحفيد العباد، قال سفيان الثوري: «دخلت على جعفر بن محمد وعليه جُبَّةُ خَزٍ، وكساء خَزٍ أَيْدَجَانيٌ، فجعلت أنظر إليه متعجباً، فقال: مالك يا ثوري؟ قلت: يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! ليس هذا من لباسك، ولا لباس آبائك، فقال: كان ذلك زماناً مقتراً، وكانوا يعملون على قدر إقتاره، وهذا زمان قد أسبل كل شيء فيه، ثم حَسر عن جُبَّتِه فإذا فيها جُبَّة صوفٍ بيضاء يَقْصُر الذيلُ عن الذيلِ، فقال: لبسنا هذا لله، وهذا لكم، فما كان لله أخفيناه، وما كان لكم أبديناه».
ومن كلامه رضي الله عنه: «إذا بلغك عن أخيك ما يسوؤك فلا تغتم، فإنه إن كان كما يقول كانت عقوبةً عُجِّلت، وإن كان على غير ما يقول كانت حسنةً لم تعملها».
وحقاً! لقد كان صافيَ النفس، واسعَ الأفق، مُرهفَ الحس، مُتوقدَ الذِّهن، كبيرَ القلب.. يَلتمس في غضبه الأعذار للآخرين.. حادَّ البصيرة، ضاحكَ السن، مُضيءَ القسمات، عَذْبَ الحديث، سبَّاقاً إلى الخير، براً طاهراً، وكان صادقَ الوعدِ تقياً.
ومن وصيته رضي الله عنه لابنه موسى: «يا بُني! اقبل وصيتي، واحفظ مقالتي، فإنك إن حفظتَها تعشْ سعيداً، وتَمتْ حميداً. يا بُني! من رضيَ بما قُسم له استغنى، ومن مدَّ عينه إلى ما في يد غيره مات فقيراً، ومن لم يرضَ بما قسمه الله له اتهم الله في قضائه، ومن استصغر زلةَ نفسه استعظم زلةَ غيره، ومن استصغر زلةَ غيره استعظم زلةَ نفسه. يا بُني! من كشف حجاب غيره انكشفت عورات بيته، ومن سلَّ سيف البغي قُتل به، ومن احتفرَ لأخيه بئراً سقط فيها، ومن داخل السفهاء حُقِّر، ومن خالط العلماء وُقِّر، ومن دخل مداخل السوء اتُّهم. يا بُني! إياك أن تُزْرِي بالرجال فَيُزْرى بك، وإياك والدخولَ فيما لا يعنيك فتذلَّ لذلك. يا بني! قل الحق لك أو عليك تُستشأن من بين أقرانك. يا بني! كن لكتاب الله تالياً، وللإسلام فاشياً، وبالمعروف آمراً، وعن المنكر ناهياً، ولمن قطعك واصلاً، ولمن سكت عنك مبتدئاً، ولمن سألك معطياً، وإياك والنميمة! فإنها تزرع الشحناء في قلوب الرجال، وإياك والتعرضَ لعيوب الناس! فمنزلة التعرض لعيوب الناس بمنزلة الهدف. يا بني! إذا طلبتَ الجود فعليك بمعادنه، فإن للجود معادن، وللمعادنِ أصولاً، وللأصولِ فروعاً، وللفروعِ ثمراً، ولا يطيب ثمر إلا بأصول، ولا أصلٌ ثابت إلا بمعدن طيب. با بني! إن زرت فزر الأخيار، ولا تزر الفجار، فإنهم صخرة لا يتفجَّر ماؤها، وشجرة لا يخضرُّ ورقها، وأرض لا يظهر عشبها. قال علي بن موسى: فما ترك هذه الوصية إلى أن توفي».
فدونَكم هذه الوصيةَ الجامعةَ لأصول الفضائل، القاطعةَ لجذورِ الرذائل، من إمامٍ خبير، وعالمٍ نحرير، وزاهدٍ عابدٍ كبير.
وكان رحمه الله قويَّ الصلةِ بالله، عظيمَ الثقة بمولاه، دائمَ الدعاء والمناجاة، ومن دعائه الذي يحلو لنا أن نختم به خطبتنا قولُه: «اللهمَّ احْرُسني بعينك التي لا تنام، واكنُفْني بركنك الذي لا يُرام، واحفظْني بقدرتِك عليّ، ولا تُهلكني وأنت رجائي، ربِّ كم من نعمة أنعمتَ بها عليّ قَلَّ لك عندها شكري! وكم من بليةٍ ابتليتني بها قَلَّ لك عندها صبري! فيا من قَلَّ عند نعمته شُكري فلم يحرِمني! ويا من قَلَّ عند بليته صبري فلم يَخذُلني! ويا من رآني على المعاصي فلم يفضحني! ويا ذا النعمِ التي لا تُحصى أبداً! ويا ذا المعروفِ الذي لا ينقطع أبداً! أَعِنِّي على ديني بدنيا، وعلى آخرتي بتقوى، واحفظني فيما غبتُ عنه، ولا تكِلني إلى نفسي فيما خطرت.....
إنتهى
الموضوع : الإمام الباقر وابنه جعفر الصادق رضي الله عنهما المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: ابراهيم كمال توقيع العضو/ه:ابراهيم كمال |
|