وتتابعت في موكب الزمن أعوام وأيام
ورفض معاوية بالشام أن
يبايع عليا..
ورفض علي أن يذعن لتمرّد غير مشروع.
وقامت
الحرب بين طائفتين من المسلمين.. ومضت موقعة الجمل.. وجاءت موقعة صفين.
كان
عمر بن العاص قد اختار طريقه الى جوار معاوية وكان يدرك مدى اجلال
المسلمين لابنه عبدالله ومدى ثقتهم في دينه، فأراد أن يحمله على الخروج
ليكسب جانب معاوية بذلك الخروجكثيرا..
كذلك كان عمرو يتفاءل كثيرا
بوجود عبدالله الى جواره في قتا، وهو لا ينسى بلاءه معه في فتوح الشام،
ويوم اليرموك.
فحين همّ بالخروج الى صفين دعاه اليه وقال له:
يا
عبدالله تهيأ للخروج، فانك ستقاتل معنا..
وأجابه عبدالله:
"
كيف وقد عهد اليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أضع سيفا في عنق مسلم
أبدا..؟؟
وحاول عمرو بدهائه اقناعه بأنهم انما يريدون بخروجهم هذا
أن يصلوا الى قتلة عثمان وأن يثأروا لدمه الزكيّ.
ثم ألقى مفاجأته
الحاسمة قائلا لولده:
" أتذكر يا عبدالله، آخر عهد عهده رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك: أطع أباك؟..
فاني
أعزم عليك الآن أن تخرج معنا وتقاتل".
وخرج عبدالله بن عمرو طاعة
لأبيه، وفي عزمه الا يحمل سيفا ولا يقا مسلما..
ولكن كيف يتم له
هذا..؟؟
حسبه الآن أن يخرج مع أبيه.. أما حين تكون المعركة فلله
ساعتئذ امر يقضيه..!
ونشب القتال حاميا ضاريا..
ويختاف
المؤرخون فيما اذا كان عبدالله قد اشترك في بدايته أم لا..
ونقول:
بدايته.. لأن القتال لم يلبث الا قليلا، حتى وقعت واقعة جعلت عبدالله بن
عمرو يأخذ مكانه جهارا ضدّ الحرب، وضدّ معاوية..
وذلك ان عمّار بن
ياسر كان يقاتل مع عليّ وكان عمّار موضع اجلال مطلق من أصحاب الرسول..
وأكثر من هذا، فقد تنبأ في يوم بعيد بمصرعه ومقتله.
كان ذلك والرسول
وأصحابه يبنون مسجدهم بالمدينة اثر هجرتهم اليها..
وكانت الأحجار
عاتية ضخمة لا يطيق أشد الناس قوة أن يحمل منها أكثر من حجر واحد.. لكن
عمارا من فرط غبطته وتشوته، راح يحمل حجرين حجرين، وبصر به الرسول فتملاه
بعينين دامعتين وقال:
" ويح ابن سميّة، تقتله الفئة الباغية".
سمع
كل اصحاب رسول الله المشتركين في البناء يومئذ هذه النبوءة، ولا يزالون
لها ذاكرين.
وكان عبدالله بن عمر أحد الذين سمعوا.
وفد بدء
القتال بين جماعة عليّ وجماعة معاوية، كان عمّار يصعد الروابي ويحرّض بأعلى
صوته ويصيح.
" اليوم نلقى الأحبة، محمدا وصحبه".
وتواصى
بقتله جماعة من جيش معاوية، فسددوا نحوه رمية آثمة، نقلته الى عالم الشهداء
الأبرار.
وسرى النبأ كالريح أن عمّار قد قتل..
وانقضّ
عبدالله بن عمرو ثائرا مهتاجا:
أوقد قتل عمار..؟
وأنتم
قاتلوه..؟
اذن انتم الفئة الباغية.
أنتم المقاتلون على
ضلالة..!!
وانطلق في جيش معاوية كالنذير، يثبط عزائمهم، ويهتف فيهم
أنهم بغاة، لأنهم قتلوا عمارا وقد تنبأ له الرسول منذ سبع وعشرين سنة على
ملأ من المسلمين بأنه ستقتله الفئة الباغية..
وحملت مقالة
عبدالله الى معاوية، ودعا عمرا وولده عبدالله، وقال لعمرو:
" ألا
تكف عنا مجنونك هذا..؟
قال عبدالله:
ما أنا بمجنون ولكني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية.
فقال
له معاوية:
فلم خرجت معنا:؟
قال عبدالله:
لأن رسول
الله أمرني أن أطيع أبي، وقد أطعته في الخروج، ولكني لا أقاتل معكم.
واذ
هما يتحاوران دخل على معاوية من يستأذن لقاتل عمار في الدخول، فصاح
عبدالله بن عمرو:
ائذن له وبشره بالنار.
وأفلتت مغايظ معوية
على الرغم من طول أناته، وسعة حلمه، وصاح بعمرو: أو ما تسمع ما يقول..
وعاد
عبدالله في هدوء المتقين واطمئنانهم، يؤكد لمعاوية أنه ما قال الا الحق،
وأن الذين قتلوا عمارا ليسوا الا بغاة..
والتفت صوب أبيه وقال:
لولا
أن رسول الله أمرني بطاعتك ما سرت معكم هذا المسير.
وخرج معاوية
وعمرو يتفقدان جيشهما، فروّعا حين سمعوا الناس جميعا يتحدثون عن نبوءة
الرسول لعمار:
تقتلك الفئة الباغية.
وأحس عمرو ومعاوية أن
هذه المهمة توشك أن تتحول الى نكوص عن معاوية وتمرّد عليه.. ففكرا حتى وجدا
حيلتهما التي مضيا يبثانها في الناس..
قالا:
نعم ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار ذات يوم:
تقتلك الفئة الباغية..
ونبوءة
الرسول حق..
وها هو ذا عمار قد قتل..
فمن قتله..؟؟
انما
قتله الذين خرجوا به، وحملوه معهم الى القتال"..!!
وفي مثل هذا
الهرج يمكن لأي منطق أن يروّج، وهكذا راج منطق معاوية وعمرو..
واستأنف
الفريقان القتال..
وعاد عبدالله بن عمرو الى مسجده، وعبادته..
**
وعاش
حياته لا يملؤها بغير مناسكه وتعبّده..
غير أن خروجه الى صفين
مجرّد خروجه، ظل مبعوث قلق له على الدوام.. فكان لا تلم به الذكرى حتى يبكي
ويقول:
" مالي ولصفين..؟؟
مالي ولقتال المسلمين"..؟
**
وذات
يوم وهو جالس في مسجد الرسول مع بعض أصحابه مرّ بهم الحسين بن علي رضي
الله عنهما، وتبادلا السلام..
ولما مضى عنهم قال عبدالله لمن معه:
"
أتحبون أن أخبركم بأحب أهل الأرض الى أهل السماء..؟
انه هذا الذي
مرّ بنا الآن.ز الحسين بن علي..
وانه ما كلمني منذ صفين..
ولأن
يرضى عني أحب اليّ من حمر النعم"..!!
واتفق مع أبي سعيد الخدري على
زيارة الحسين..
وهناك في دار الحسين تم لقاء الأكرمين..
وبدأ
عبدالله بن عمرو الحديث، فأتى على ذكر صفين فسأله الحسين معاتبا:
"
ما الذي حملك على الخروج مع معاوية"..؟؟
قال عبدالله:
" ذات
يوم شكاني عمرو بن العاص الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له:
"
ان عبدالله يصوم النهار كله، ويقوم الليل كله.
فقال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
يا عبدالله صل ونم.. وصم وافطر.. وأطع أباك..
ولما
كان يوم صفين أقسم عليّ أبي أن أخرج معهم، فخرجت..
ولكن والله ما
اخترطت سيفا، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم"..!!
وبينما هو يتوقل
الثانية والسبعين من عمره المبارك..
واذ هو في مصلاه، يتضرّع الى
ربه، ويسبّح بحمده دعي الى رحلة الأبد، فلبى الدعاء في شوق عظيم..
والى
اخوانه الذين سبقوه بالحسنى، ذهبت روحه تسعى وتطير..
والبشير
يدعوها من الرفيق الأعلى:
( يا أيتها النفس المطمئنة..
ارجعي
الى ربك راضية مرضية
فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)..
الموضوع : عبدالله بن عمرو بن العاص - القانت الأوّاب المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya