التوحيد عند المتكلمين:
يقولون: إن معنى إله: آله، والآله: القادر على الاختراع؛ فيكون معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله.
والتوحيد
عندهم: أن توحد الله، فتقول: هو واحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في
أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له، ولو كان هذا معنى لا إله
إلا الله؛ لما أنكرت قريش على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعوته ولآمنت
به وصدقت؛ لأن قريشًا تقول: لا خالق إلا الله، ولا خالق أبلغ من كلمة لا
قادر، لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق؛ فقد فعل وحقق بقدرة
منه، فصار فهم المشركين خيرًا من فهم هؤلاء المتكلمين والمنتسبين للإسلام؛
فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى: {مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]؛ أي من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو
الله.
ومن المؤسف أنه يوجد كثير من الكتاب الآن الذين يكتبون في
هذه الأبواب تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد لا يقررون أكثر من توحيد
الربوبية، وهذا غلط ونقص عظيم، ويجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد
الألوهية أكثر من توحيد الربوبية، لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكارًا
حقيقيًا، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم بالعقل، ونسكت عن
الأمر الذي يغلب فيه الهوى هو نقص عظيم، فعبادة غير الله هي التي يسيطر
فيها هوى الإنسان على نفسه حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء
ويعبد هواه، حتى جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي همه الدرهم
والدينار ونحوهما عابدًا، وقال الله - عز وجل ـ: {أفرأيت من اتخذ إلهه
هواه} [الجاثية: 23].
فالمعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك. وأما بالمعنى الأخص؛ فتنقسم إلى أنواع:
1- شرك أكبر.
2- شرك أصغر.
3- معصية كبيرة.
4- معصية صغيرة.
وهذه المعاصي منها ما يتعلق بحق الله، ومنها ما يتعلق بحق الإنسان نفسه، ومنها ما يتعلق بحق الخلق.
وتحقيق لا إله إلا الله أمر في غاية الصعوبة، ولهذا قال بعض السلف: "كل معصية، فهي نوع من الشرك".
وقال
بعض السلف: "ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص"، ولا يعرف
هذا إلا المؤمن، أما غير المؤمن؛ فلا يجاهد نفسه على الإخلاص، ولهذا قيل
لابن عباس: "إنّ اليهود يقولون: نحن لا نوسوس في الصلاة. قال:
فما يصنع الشيطان بقلبٍ خرب؟!"؛ فالشيطان لا يأتي ليخرّب المهدوم،
ولكن يأتي ليخرّب المعمور، ولهذا لما شُكي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أن الرجل يجد في نفسه ما يستعظم أن يتكلم به؛ قال: (وجدتم
ذلك؟). قالوا: نعم.
قال: (ذاك صريح الإيمان)
[مسلم: كتاب الإيمان/ باب الوسوسة في الإيمان.]؛ أي: أن ذاك هو
العلامة البينة على أنّ إيمانكم صريح لأنّه ورد عليه، ولا يرد إلا على قلب
صحيح خالص.
قوله: (من شهد أن لا إله إلا الله)، من: شرطية، وجواب الشرط: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).
والشهادة:
هي الاعتراف باللسان، والاعتقاد بالقلب، والتصديق بالجوارح، ولهذا لما قال
المنافقون للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: {نَشْهَدُ إِنَّكَ
لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] وهذه جملة مؤكدة بثلاث
مؤكدات: الشهادة، وإن، واللام، كذبهم الله بقوله: {وَاللَّهُ
يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ
لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]؛ فلم ينفعهم هذا الإقرار باللسان
لأنه خالٍ من الاعتقاد بالقلب، وخالٍ من التصديق بالعمل، فلم ينفع؛ فلا
تتحقق الشهادة إلا بعقيدة في القلب، واعتراف باللسان، وتصديق بالعمل.
وقوله:
"لا إله إلا الله"، أي: لا معبود على وجه يستحق أن يعبد إلا الله،
وهذه الأصنام التي تعبد لا تستحق العبادة؛ لأنه ليس فيها من خصائص الألوهية
شيء.
قوله: {وحده لا شريك له}، وحده: توكيد للإثبات، لا
شريك له: توكيد للنفي في كل ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء
والصفات.
ولهذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغيره من
المؤمنين يلجؤون إلى الله تعالى عند الشدائد؛ فقد جاء أعرابي إلى النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ وعنده أصحابه، وقد علق سيفه على شجرة فاخترطه
الأعرابي، وقال: من يمنعك مني؟ قال: (يمنعني الله) [البخاري:
كتاب المغازي/ باب غزوة ذات الرقاع، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين/ باب
صلاة الخوف.] ولم يقل أصحابي، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية؛ لأن الله
هو الذين يملك النفع، والضر، والخلق، والتدبير، والتصرف في الملك؛ إذ لا
شريك له فيما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
وقولنا
فيما يختص به حتى نسلم من شبهات كثيرة، منها شبهات النّافين للصفات؛ لأن
النّافين للصفات زعموا أن إثبات الصفات إشراك بالله - عز وجل ـ، حيث
قالوا: يلزم من ذلك التمثيل، لكننا نقول: للخالق صفات تختص به،
وللمخلوق صفات تختص به.
قوله: (وأنّ محمدًا)، محمد: هو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، القرشي، الهاشمي، خاتم النبيين.
وقوله: (عبده)؛ أي: ليس شريكًا مع الله.
وقوله: (ورسوله)؛ أي: المبعوث بما أوحى إليه، فليس كاذبًا على الله.
فالرسول
ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبدٌ مربوب، جميع خصائص البشرية تلحقه ما عدا
شيئًا واحدًا، وهو ما يعود إلى أسافل الأخلاق؛ فهو منزه معصوم منه، قال
تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا
شَاء اللَّهُ} [الأعراف: 188]، وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي لا
أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ
اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 21،
22].
فهو بشر مثلنا؛ إلا أنه يوحى إليه، قال تعال: {قُلْ
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ
إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت: 6].
ومن قال: إن الرسول ـ صلى
الله عليه وسلم ـ ليس له ظل، أو أن نوره يطفئ ظله إذا مشى في الشمس؛ فكله
كذب باطل، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: (كنت أمد رجلي بين يديه،
وتعتذر بأن البيوت ليس فيها مصابيح)، فلو كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم
ـ له نور؛ لم تعتذر رضي الله عنها، ولكنه الغلو الذي أفسد الدين والدنيا،
والعياذ بالله.
ومن الغلو قول البوصيري في "البردة" المشهورة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ** سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذًا يوم المعاد يدي ** فضلًا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ** ومن علومك علم اللوح والقلم
قال ابن رجب وغيره: إنه لم يترك لله شيئًا ما دامت الدنيا والآخرة من جود الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ونشهد أن من يقول هذا؛ ما شهد أن محمدًا عبدالله، بل شهد أن محمدًا فوق الله! كيف يصل بهم الغلو إلى هذا الحد؟!
وهذا الغلو فوق غلو النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة.
هم
قالوا فوق ذلك، قالوا: إن الله يقول: (من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ
خير منه، وأنا مع عبدي إذا ذكرني) [البخاري: كتاب التوحيد/ باب قول
الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه(، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء/ باب
الحث على ذكر الله تعالى.]، والرسول معنا إذا ذكرناه، ولهذا كان أولئك
الغلاة ليلة المولد إذا تلى التالي "المخرّف" كلمة المصطفى قاموا
جميعًا قيام رجل واحد، يقولون: لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حضر
مجلسنا بنفسه، فقمنا إجلالًا له، والصحابة رضي الله عنهم أشدّ إجلالًا منهم
ومنا، ومع ذلك إذا دخل عليهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو حيٌ
يكلمهم لا يقومون له، وهؤلاء يقومون إذا تخيلوا أو جاءهم شبح إن كانوا
يشاهدون شيئًا، فانظر كيف بلغت بهم عقولهم إلى هذا الحد! فهؤلاء ما شهدوا
أن محمدًا عبدالله ورسوله، وهؤلاء المخرفون مساكين، إن نظرنا إليهم بعين
القدر؛ فنرق لهم، ونسأل الله لهم السلامة والعافية، وإن نظرنا إليهم بعين
الشرع؛ فإننا يجب أن ننابذهم بالحجة حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم،
والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشد الناس عبودية لله، أخشاهم لله، واتقاهم
لله، قام يصلي حتى تورمت قدماه، وقيل له في ذلك؛ فقال: (أفلا أكون
عبدًا شكورًا) [البخاري: كتاب التهجد/ باب قيام النبي ( حتى تورم
قدماه، ومسلم: كتاب صفات المنافقين/ باب إكثار الأعمال.]، وقد غفر له
ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا تحقيق العبادة العظيمة.
أما
الرسالة؛ فهو رسول أرسله الله - عزوجل - بأعظم شريعة إلى جميع الخلق،
فبلغها غاية البلاغ، مع أنه أوذي وقوتل، حتى إنهم جاؤوا بسلا الجزور وهو
ساجد عند الكعبة ووضعوه على ظهره، كل ذلك كراهيةً له ولما جاء به، ومع ذلك
صبر، يلقون الأذى والأنتان والأقذار على عتبة بابه، لكن هذا للنبي الكريم
امتحان من الله - عز وجل ـ؛ لأجل أن يتبين صبره وفضله، يخرج ويقول: (أي
جوار هذا يا بني عبد مناف؟) [ذكره ابن هشام في "السيرة النبوية"
(2/416)، وابن كثير في "البداية والنهاية"(3/133).]، فصبر
ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ حتى فتح الله عليه، وأنذر أم القرى ومن حولها،
ثم إنه حمل هذه الشريعة من بعده أشد الناس أمانةً وأقواهم على الاتباع؛
الصحابة رضي الله عنهم، وأدوها إلى الأمة نقيّة سليمة، ولله الحمد.
ونحب
الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لله وفي الله؛ فحب الرسول ـ صلى الله عليه
وسلم ـ من حبّ الله، ونقدمه على أنفسنا وأهلنا وأولادنا والناس أجمعين،
وأحببناه من أجل أنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
ونحقق
شهادة أن محمدًا رسول الله، وذلك بأن نعتقد ذلك بقلوبنا، ونعترف به
بألسنتنا، ونطبق ذلك في متابعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجوار حنا، فنعمل
بهديه، ولا نعمل له.
(الشيخ محمد بن صالح العثيمين)
الموضوع : فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب ((2)) (( الشيخ محمد بن صالح العثيمين)) المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya