الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فهذه ثلاث كلمات تصوِّر الواقعَ الذي نعيشه هذه الأيام وما نتطلع إليه، لكنها وإن تشابهت في الرسم؛ فبين معانيها كما بين السماء والأرض.
أما الأولى: فغَزَّة: (بالغين المعجمة): وهي تلك القطعة من جسدنا الممزق الجريح، والتي يتكالب عليها إخوان القردة والخنازير ومن ساندهم من الأمريكان النصارى الحاقدين، والمنافقين والعلمانيين؛ رغبة منهم في إزهاق المقاومة الإسلامية والقضاء على حركة الجهاد الإسلامي هناك.
وحتى هذه اللحظة والقلم يسطر هذه الكلمات يتوالى القصف براً وبحراً وجواً، لتلك المدينة المنكوبة -ولا حول ولا قوة إلا بالله- على مرأى ومسمع من العالم المتحضر، بل للأسف العالم الإسلامي أيضاً، والله المستعان، وإليه المشتكى.
وليست هذه الصفحات لسرد أو فتح سجلات جرائم العدو الصهيوني، فقد رأينا وسمعنا ما يعتصر له القلب ألماً، وتبكي منه العين دماً لا دمعاً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما الثانية: عَزَّة (بالعين المهملة): فهي رمز للتعلق بالشهوات، شهوات الدنيا من نساء وأموال ومناصب وغيرها، وقد أخذْتُه من قصة ذلك الشاعر "كُثَيِّر" الذي تعلق بامرأة يقال لها "عَزَّة" وكتب فيها من شعر الغزل الكثير والكثير حتى صار يلقب بها فيقال: "كُثَيِّر عَزَّة"، كـ "مجنون ليلى"، وغيرها كثير في تراثنا! ممن انحرفوا بالشعر عن غايته وهدفه.
وأتيت بهذه الكلمة لأقول: إن طريق الوصول إلى الكرامة والعزة والرفعة لا يكون مع التعلق بالشهوات والركون إليها، وأن تصير هي القبلة والوجهة والمحرك للقلوب؛ إذ إن ذلك من أسباب الهزيمة، وشواهد ذلك كثيرة.
لمَّا مالت نفوس بعض الصحابة للدنيا في أحد؛ كانت الهزيمة وأنزل الله: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ)(آل عمران:152)، مع أسباب أخرى معروفة.
ومن كانت الدنيا همه لم يسهل عليها فراقها، وصدته عن التضحية والبذل لدينه، ويشهد لذلك حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (غَزَا نَبِىٌّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ فَقَالَ لِقَوْمِهِ لاَ يَتْبَعْنِى رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهْوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِىَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، وَلاَ أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا، وَلاَ أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهْوَ يَنْتَظِرُ وِلاَدَهَا) متفق عليه.
وقد بيَّن الله أن من صفات اليهود -لعنهم الله- الحرص على الدنيا، أياً كانت، فقال: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ)(البقرة:96).
ومن يطالع تاريخ الأندلس المفقود يرى بجلاء كيف بذل بعض الأمراء دينهم وتعاونوا مع النصارى ضد إخوانهم المسلمين، كل ذلك لأجل كرسي ومنصب، ودنيا زائلة لم يستمتع بها أيضاً!!
فطالبُ اللهِ والدارِ الآخرة الساعي لتحقيق النصر والتمكين لهذه الأمة لا بد له من الزهد في الدنيا وعدم التعلق بها، ومن الزهد في الدنيا أن تبذلها رخيصة في الرخاء؛ فإن الذي يعجز عن ديناره في الرخاء سيعجز عن دمه في الشدة، والذي يعجز عن بذل وقته للدعوة سيعجز عن بذله في ساح الجهاد.
يقول أحمد بن خالد الأحول الكاتب: "من لم يقدر على نفسه بالذل؛ لم يقدر على عدوه بالقتل".
وعلق الذهبي -رحمه الله- فقال: "الشجاعة والسخاء أخوان، فمن لم يَجُدْ بماله فلن يجود بنفسه".
ولو توقفنا مع "عَزَّة" الشهوات وقفة أخرى لوجدنا أن كثيراً من شباب الأمة تائه غارق في لجة الشهوات وسكرة الغفلة، انشغلوا بالحب والغرام والشوق والهيام، فلا هَمَّ يقيم أحدهم أو يقعده سوى التفكير في محبوبته، والرسائل الغرامية، والمواعيد الأثيمة، وبالرغم من اتساع نطاق الصحوة والدعوة وسط الشباب، إلا أن هناك -وبلا شك- تواجداً لذلك النوع، ولربما كان كثيراً.
وهم مازالوا -رغم هذه المجازر وتلك الحملة على غزة- متعلقين بشهواتهم باحثين عن رغباتهم منشغلين بما يهلكهم وربما يهلك الأمة معهم، وليتهم -إذ لم يكونوا سبباً في النصر- امتنعوا عن تغريق السفينة!، ليتهم وجهوا سهامهم نحو عدوهم بدلاً من صدر أمتهم المكلومة!... وإلى الله المشتكى.
ومنهم من هو أحسن حالاً لكنه لا هم له سوى الدراسة والشهادة والمستقبل، فأعرض عن دينه كلية انشغالاً بالكلية، ولربما أتى الدور عليه فلم تنفعه الشِهادة وفاتته الشَهادة!!
ووقفة أخرى مع بعض المنتكسين إذ ربما انشغل بنفسه وزوجه وولده عن نصرة دنيه ودعوة ربه، فما حصَّل من الالتزام سوى المظهر، وهذا خير، لكن أن يتوقف عند هذا الحد؛ فهذا ربما كان نذير شر؛ إذ لا وقوف في الطريق البتة، بل (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)(المدثر:37)، وبعضهم يظل في تراجع وتأخر حتى تصدر منه سلوكيات تهدم التزامه هدماً، فتخر سماء إيمانه على أرضه، ويصبح ممن قال الله فيهم: (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)(النحل:94).
وتأمل قوله -تعالى-: (بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)، فكم من سلوكيات تصدر عن بعض المنتسبين للالتزام تكون سبباً للصد عن الالتزام!!
أوليس ما نحن فيه من شدائد وآلام يدعونا لوقفة مع النفس لتصحيح المسير إلى الله -تعالى-؟
لينظر كل واحد منا في حاله والتزامه، ويسأل نفسه: ماذا فِيَّ مما لا يرضي اللهَ؟
ماذا عندي من أسباب الهزيمة؟ ثم -وبعزمة صدق، وهمة قلب- يأخذ بنفسه للجدية في الالتزام نحو دنيه ودعوته، فيكون له دور في نصرة إخوانه ورفعة أمته.
إخواني الكرام... وإذا أردنا أن تكتمل معالم الطريق إلى العزة في خطوات تسير فيها الأمة؛ فعندنا صفات ذكرها الله -تعالى- في كتابه للمؤمنين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم، يقول الله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)(التوبة:111-112).
فأوَّل صفة تطالعنا بها الآية (التَّائِبُونَ)، فالنفوس المحملة بالذنوب لا تستطيع رفع السلاح ولا الصمود في الساح، ولن يصبح العبد معصوماً، لكنها التوبة بعد التوبة وغسل الحوبة، والإكثار من الاستغفار.
لما وجه عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنهما- إلى الفرس لحقه يودعه ويوصيه، فكان مما قال له: "فإن الله -عز وجل- لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيء بالحسن؛ فإن الله ليس بينه وبين أحد إلا طاعته".
وقد وفد على عمر -رضي الله عنه- بالفتح، فقال لهم: متى لقيتم عدوكم؟ قالوا: أول النهار. قال: فمتى انهزموا؟ قالوا: آخر النهار. فقال: إنا لله! أوَقام الشرك للإيمان من أول النهار إلى آخره؟ والله إن كان هذا إلا عن ذنب أحدثتموه بعدي، أو أحدثته بعدكم".
ولعلي منذ قليل قد أشرت إلى تلك الوقفة اللازمة لكل منا مع نفسه، ثم بمجاهدة نفسه وهواه يكون الوصول إلى التقوى، ومن ثم حصول النصرة.
الموضوع : غزة... عَزَّة... عِزَّة المصدر :منتديات تقى الإسلامية الكاتب: El Helalya